د. كمال حمدان
الحق بالصحة والتعليم وضمان الشيخوخة وتعويض البطالة واسئصال الفقر المدقع

تلقّت «الأخبار» طلباً مباشراً من المعنيين في مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في بيروت بوقف نشر فصول مسودة الورقة التي أعدّها رئيس القسم الاقتصادي في مؤسسة البحوث والاستشارات د. كمال حمدان، تمهيداً لإعداد التقرير الوطني للتنمية البشرية لعام 2008، وإذ تضطر «الأخبار» إلى الاستجابة لهذا الطلب، على الرغم من قناعتها بأن مبرّراته «المعلنة» غير موضوعية وتتناقض مع مبادئ «الشفافية» وتمكين الناس من المشاركة عبر إطلاعهم على المعلومات وإشراكهم في نقاش قضاياهم الحيوية وحقوقهم السياسية والاجتماعية... فإنها تعد القرّاء الذين تابعوا الفصول المنشورة، في هذا العدد والعددين السابقين، بمواصلة العمل على نشر كل المعطيات المتاحة وتحليلها بأشكال مختلفة وفي مناسبات أخرى... ولذلك، وبناءً على الاتفاق الشفهي مع البرنامج، ستكتفي «الأخبار» بنشر ملخّص شديد الإيجاز لما بقي من فصول في هذه الحلقة الأخيرة

***


تستعرض الفصول الباقية من ورقة د. كمال حمدان المسائل المتعلقة بالحق في الصحّة والتعليم وضمان الشيخوخة وضمان البطالة ومكافحة الفقر، وأخيراً الإطار العام الحاضن للإصلاح في إطار العقد الاجتماعي و «المواطنية الاجتماعية»:

الحق في الصحة

ينفق المجتمع اللبناني، في القطاعين العام والخاص، ما يراوح بين 10 في المئة و12 في المئة من إجماليّ الناتج المحلي القائم، على الشؤون الصحية في مقابل 6 أو 7 في المئة في معظم بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتراوح مساهمة الدولة في تمويل الفاتورة بين 25 و35 في المئة فقط، مقارنة بـ46 الى50 في المئة في حالتي الأردن وتونس، وتزيد عموماً عن 75 في المئة بل 80 في المئة من دول الاتحاد الأوروبي.
وتعدّ عوائد الإنفاق الصحي في لبنان ضعيفة نسبياً، فالمجتمع اللبناني ينفق وسطياً على صحة الفرد نحو أربعة أضعاف ما تنفقه تونس والأردن، مع تماثل نسبي في معدل وفيات الأطفال ومعدل الأمل في الحياة. وبالنظر الى أن معظم هذا الإنفاق يأتي عبر التمويل من جانب الأسر، فمن الطبيعي أن يترافق هذا النسق من التمويل، مع أوجه عدم مساواة فاقعة، تتغذّى من التفاوت الحاد في قدرة الناس على تلبية احتياجاتهم الصحية، بحسب المناطق والفئات الاجتماعية المختلفة، وكذلك بحسب شمولهم أو عدم شمولهم بنظم التأمينات الصحية القائمة، الرسمية وشبه الرسمية والخاصة. فنظم التأمين لا تغطي إلا نحو نصف إجمالي المقيمين.
ويبرز فائض نسبي في العرض الصحي على مستوى عدد الأطباء والصيادلة وأسرّة المستشفيات والصيدليات وأصناف الأدوية، ويشمل هذا الفائض أيضاً الإفراط في التجهيز الصحي في المعدات الاستشفائية والصحية الباهظة الكلفة والسريعة التقادم. وبدلاً من أن يؤدّي هذا الفائض إلى تعزيز المنافسة، وبالتالي، إلى خفض الأكلاف والأسعار في لبنان، فإن هذه الأكلاف والأسعار ظلت مرتفعة، لاعتبارات عدة أهمها بنية وآليات التمويل الراهنة، ولا سيما الرسمية منها، إضافة إلى غلبة احتكار القلة في بعض الأسواق (الدواء مثلاً) وإلى ضعف سياسات وبرامج الرقابة على هذا القطاع، الذي ينتج فيه موردو القطاع الخاص نحو 95 في المئة من إجمالي الخدمات الصحية.

الحق في التعليم

يقوم نظام التعليم في لبنان على مكوّنين أساسيين، هما التعليم الرسمي والتعليم الخاص. ويضطلع التعليم الخاص بدور المسيطر لجهة حجم ونوع خدمات التعليم المنتجة، فيما يكتفي التعليم الرسمي بالاضطلاع بدور رديف... وينطلق هذا التوصيف من تفوق نسبة الملتحقين بالتعليم الخاص (نحو 60% من إجمالي المنتسبين الى التعليم) على نسبتهم في التعليم الرسمي (40%)، وكذلك تفوق نوعية التعليم الخاص عموماً على التعليم الرسمي، مع وجود تفاوتات حادة داخل كل قطاع. وتتمثل أهم سمات هذا القطاع في الآتيضعف معدلات الالتحاق بالتعليم الرسمي في مراحل التعليم الأولى.
- فروق كبيرة في نوعية التعليم بحسب القطاع والمناطق، فمن أصل كل فوج من 1000 تلميذ يدخلون السنة الأولى من المرحلة الابتدائية، لا يصل إلى السنة الأخيرة من التعليم العام (البكالوريا القسم الثاني) من دون التعرض للرسوب إلّا 75 تلميذاً، وينخفض هذا المعدل الى 9 تلامذة فقط في قطاع التعليم الرسمي مقابل 225 تلميذاً في قطاع التعليم الخاص، ويبلغ 161 تلميذاً في مدارس بيروت وينخفض الى 24 تلميذاً في البقاع، ويبلغ المعدل لدى الأسر المنتمية الى الطبقة الوسطى والميسورة نحو عشرة أضعاف مثيله لدى الأسر الفقيرة. ومن المفارقات اللافتة أن هذا التفاوت الحاد في نوعية التعليم يتزامن مع تقارب متوسط كلفة التلميذ الواحد في كلا القطاعين، حيث قدّر هذا المتوسط بنحو مليوني ليرة في التعليم الخاص عام 2001 مقابل نحو 1،725 مليون ليرة في التعليم الرسمي.
- خلل في تمويل الإنفاق على التعليم مع غلبة التمويل الخاص، إذ يقدّر إجمالي الإنفاق على التعليم في لبنان بنحو 11،4 % من الناتج المحلي القائم، وتتحمّل الأسر (والقطاع الخاص عموماً) 7% منه والقطاع العام 4،4 % (أرقام عام 2001). وتعدّ مساهمة الأسر، كنسبة من الناتج المحلي، بين الأعلى في المقارنات الدولية (0،4 % في فرنسا و 2،2% في الولايات المتحدة و2،8% في كوريا).
- تفاوت شديد في نوعية التعليم العالي، بحسب الجامعات والمعاهد المختلفة، وفي أحيان كثيرة بين كليات الجامعة الواحدة. ويكاد هذا التعليم ينمو وفقاً لسرعتين، واحدة للطلاب الميسورين والأخرى للسواد الأعظم من الناس.

ضمان الشيخوخة:

يفتقر لبنان إلى قانون لضمان الشيخوخة للعاملين في القطاع الخاص، ويكاد لبنان ينفرد بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالنسبة الى تعدد أنظمة التقاعد فيه. ففي القطاع العام، يقوم نظامان للتقاعد، أحدهما للقوى العسكرية والآخر لموظفي الخدمة المدنية، أما العاملون في القطاع الخاص، فإنهم يخضعون لنظام تعويضات نهاية خدمة، ويستفاد من المعطيات الإحصائية المتاحة، بأن نظامَي التقاعد الرسميين اللذين تديرهما وزارة المالية يشملان نحو 6 في المئة من القوى العاملة وتصل كلفتهما السنوية الى 2،7 في المئة من الناتج المحلي القائم، وهما يفتقدان أي احتياط مستقل. في المقابل، فإن نظام تعويضات نهاية الخدمة الذي يتجمّع فيه راهناً احتياط نقدي يقدّر بنحو 15 في المئة من الناتج المحلي يغطي نحو 20 في المئة من إجمالي القوى العاملة، وتصل نفقاته السنوية وسطياً الى أقل من واحد في المئة من الناتج المحلي، وهو يدار من جانب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. ويتركّز معظم المنتسبين الى هذا النظام في نشاطات القطاع الخاص المدينية النظامية، إضافة الى الموظّفين والأجراء المتعاقدين في القطاع العام. ويُستنتج من هذه المعطيات أن نظم التأمين الثلاثة لا تغطّي إلا نحو ربع القوى العاملة الإجمالية، فيما عدد العاملين بأجر في البلاد تزيد نسبتهم على 60 في المئة من القوى العاملة، وهذا ما يؤكد ضعف شمول تلك الأنظمة. وإضافة الى هذا الضعف العام في نطاق شمولها، تشكو الأنظمة من اختلالات وتشوّهات على غير صعيد.

مكافحة الفقر

إن ضخامة الأخطار المتأتّية من غياب شبكات الحماية والأمان الاجتماعية، تحتم إبراز موضوع مكافحة الفقر في المرتبة الأولى من سلّم الأولويات. وفي جميع الأحوال لا ينبغي النظر إلى سياسات مكافحة الفقر بصفتها بديلاً عن السياسات الاجتماعية الأوسع نطاقاً، بل هي جزء لا يتجزأ من تلك السياسات. ومن الضروري التأكيد مجدّداً على هذا الأمر حتى لا تبنى مراهنات (خاطئة) على إمكان التملص من وضع وتنفيذ السياسات الاجتماعية، بحجة التفرغ لوضع وتنفيذ سياسات مكافحة الفقر.
واستناداً الى نتائج أحدث بحث إحصائي ميداني بشأن مسألة الفقر في لبنان (فقر الدخل تحديداً)، يتبين أن نسبة السكان الذين يعانون فقراً مدقعاً تقدّر بنحو 8 في المئة من إجمالي عدد المقيمين في البلاد، وأن نسبة الذين يعانون فقراً نسبياً (دون الخط الأعلى للفقر) تصل الى نحو 30 في المئة. وتتفاوت نسبة الفقر المدقع بشكل حاد من منطقة الى أخرى، فتبلغ أدناها (0،67%) في بيروت، وأقصاها (17،75%) في الشمال، الذي يضم وحده نحن 46% من إجمالي الذين يعانون فقراً مدقعاً في لبنان.
ولو تمّ الاستناد الى تقديرات نسب الفقر المدقع، والى تقديرات فجوة الفقر لتبيّن أن إجمالي كلفة استئصال هذا النوع من الفقر قد لا تزيد على 45 أو 50 مليون دولار أميركي سنوياً، وهو المبلغ اللازم لرفع متوسط دخل الأسر الشديدة الفقر من مستواه الراهن الى مستوى خط الفقر. فهل يعقل أن يحول مبلغ كهذا دون استئصال ظاهرة الفقر المدقع في البلاد؟ أم أن المعضلة الأساسية تكمن في غياب نظام شفاف لاستهداف الأسر والأفراد المعنيين مباشرة بهذه الظاهرة؟

ضمان البطالة

إن المعطيات ـ المتداولة قبل عدوان تموز 2006 ـ بشأن حجم وخصائص ظاهرة البطالة تفيد أن هذه الظاهرة تطال ـ بحسب الأرقام الرسمية أو شبه الرسمية ـ ما بين 9 في المئة و11 في المئة من إجمالي القوى العاملة، وهي تصل الى نحو 15 في المئة في الفئات العمرية الشابة ما بين 18 و35 سنة. وتزيد نسبة البطالة في المناطق المدينية (بيروت وضواحيها إضافة الى جبل لبنان) على مستوياتها في المناطق الريفية والطرفية تبعاً لتفاوت بنية الإعمار، حيث إن هذه البنية أكثر فتوة من المناطق المدينية منها في المناطق الواقعة خارج العاصمة ومحافظة الجبل. وبالرغم من أن العديد من المصادر غير الرسمية تشير الى أن المعدّلات الفعلية للبطالة باتت بعد عدوان تموز 2006 تتجاوز الأرقام الرسمية المعلنة، لتصل الى ما بين 12 في المئة و15 في المئة، إلّا أن ثمة إجماعاً على أن حجم هذه الظاهرة كان وما زال مرشحاً لأن يكون أكبر بكثير لولا استمرار حركة الهجرة الى الخارج، التي تؤدّي دوراً بارزاً في لجم التزايد المطرد في معدلات البطالة.



كلفة ضمان البطالة

يمكن وضع عدة سيناريوهات أولية حول كلفة نظام ضمان البطالة المقترح. فالمعطيات الإحصائية المتاحة تشير الى أن إجمالي عدد الأجراء المتعطلين عن العمل (باستثناء الذي يبحثون عن عمل لأول مرة) يقدر بحوالى 55 ألف متعطل. ومع افتراض أن مدة سريان التعويض تنحصر في اثنى عشر شهراً، وأن نسبة التعويض تصل الى 60 في المئة من الحد الأدنى للأجر البالغ 200 دولار أمريكي في فرضية أولى أو 60 في المئة من متوسط الأجر المقدر بنحو 600 دولار أميركي في فرضة ثانية، فإن إجمالي تكاليف نظام ضمان البطالة ـ من دون احتساب تكاليف إدارة هذا النظام ـ يراوح بين نحو 80 مليون دولار و250 مليون دولار سنوياً.



الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث