أرنست خوريأن يأتي عجوز ذو شهرة ونفوذ عالميّين يُدعى فتح الله غولن إلى اسطنبول وأنقرة قريباً، بصفة «فاتح» إسلامي لفرض حكم الشريعة فيهما، فكرة أقرب إلى السورياليّة منها إلى الواقع. لكنها فكرة يطيب للبعض في تركيا والولايات المتّحدة خوض حروب دونكيشوتيّة ضدّها. فمن هو غولن هذا، المغمور عربيّاً والذائع الصيت غربياً؟
بين من يصفه بـ«خميني تركيا العائد قريباً ليحوّل أنقرة إلى طهران جديدة»، ومن يرى أنه أقرب ما يكون إلى غاندي الإسلام الراكب صهوة حوار الحضارات والانفتاح على «الآخر»، يبقى محمّد فتح الله غولن على الأرجح، «أكثر شخصيّة مثيرة للالتباس» في تركيا. لكنه قبل كلّ شيء يبقى أشهر داعية إسلامي في الغرب، وقد يكون أثراهم وأكثرهم نفوذاًفتح الله غولن (67 عاماً) رجل يجمع في شخصه معظم معالم الغرابة والألغاز. نشاطه الطويل في دنيا الدعوة الإسلاميّة (اعتزل ممارستها عام 1981) بدأ في رحلات إلى قرى سهول الأناضول النائية، ووصلت به إلى أن يتحوّل نجماً عالميّاً، يحمل أوسمة «مجلس لوردات بريطانيا»، وتنهال عليه شهادات كبار رؤساء الجامعات الأميركية والبريطانية. جمعيّاته ومدارسه وجامعاته عددها يناهز الألف، تتوزّع على 90 بلداً في كل القارات.
مؤسّساته الإعلاميّة وشركاته في عالم الاستثمار ثرواتها طائلة، وجميعها تنضوي تحت لواء مؤسسة أم، هي «غولن إنستيتيوت»، ومقرّها حرم جامعة هيوستن الأميركيّة. انفتاحه من منطلق إسلامي، على أديان وحضارات وثقافات العالم، و«تقديسه» قيم الحداثة الغربيّة، من ديموقراطيّة وحرية وتعدّد حزبي وحوار حضارات، جعلت التيّار الإسلامي «التقليدي» يتّهمه بالانحراف عن دينه.
كما لم تشفع نزعته السلميّة في تجنيبه حرباً هوجاء قادها ضدّه، ولا يزال، جنرالات بلاده وعلمانيّوها، على اعتبار أنّه «يسعى صامتاً» للسيطرة (عبر تلاميذه الذين يفوق عددهم المليون في تركيا، أبرزهم رئيس الحكومة التركيّة رجب طيّب أردوغان، حتّى إن بولنت أجاويد وسليمان ديميريل العلمانيَّين درسا في إحدى مدارسه) على السلطة، وتحويل البلاد دولة إسلاميّة على شاكلة الأسلوب الذي اتّبعه روح الله الموسوي، أي خميني إيران عام 1979.
تهمة أودت به إلى المحكمة، قبل أن يُبرّأ مرّتين: عام 2006 وعام 2008.
منفاه الاختياري في ولاية بنسلفانيا الأميركية لجأ إليه منذ عام 1998، ليتجنّب الاعتقال على خلفيّة بثّ تسجيل صوتي له، فسّره أعداؤه الأتراك بأنه يدعو فيه إلى توحيد الجهود للسيطرة على الحكم في أنقرة. منفى قد يغادره قريباً ليعود إلى الوطن، فهو بات بريئاً من كلّ تهمة. لقد تخلّص من الملاحقة القانونيّة، لكنّ حظوظ العودة المظفّرة تبقى محدودة، لأن الرجل يعاني وضعاً صحيّاً دقيقاً.
إسلام «موديرن»
الرجل شاغل الدنيا، وخصوصاً نخب العالم «المسيحي». الأستاذ الجامعي الأميركي جيل كارول وضع أخيراً كتاباً عنه بعنوان «حوار الحضارات: أفكار غولن الإسلاميّة وحديثه الإنساني». جوهر الكتاب دراسة مقارنة بين غولن وكونفوشيوس وأفلاطون وإيمانويل كانط وجون ستيوارت ميل وجان بول سارتر في قضايا «القيم الإنسانية والأخلاق والحرية وأهمية التعليم والمسؤوليّة...». أمّا رئيسة جامعة «بنسلفانيا ماريوود» آن مونلي، فوصفت المدارس التي أنشأها غولن بأنها «جزيرة للسلام». الأهم يبقى أنّ حكومة ولاية هيوستن خصّصت يوم 21 من شباط من كل عام للاحتفال به كـ«يوم مؤسسة غولن». مجلّة «إيكونوميست» البريطانيّة رأت أنّ حركة غولن «تبدو الأكثر عقلانية من معظم نظيراتها، وتسعى من أجل الاعتراف بها لتكون الشبكة الإسلامية الرائدة على مستوى العالم». أما صحيفة «لو موند» الفرنسية والمجلّة الاقتصاديّة الشهيرة «فوربز» فقد تبنّتا مشروع غولن مالياً وتنظيمياً. ويرى عدد كبير من علماء الإسلام أنّ حركته باتت على جميع المستويات أوسع انتشاراً وأكثر قبولاً، حتى من جماعة «الإخوان» المسلمين. وقد يكون أبرز مكامن قوّة الحركة في الغرب، أنها مدعومة من هذا الغرب الليبرالي الباحث من دون كلل عن شريك إسلامي في نظريّة «حوار الحضارات». فحركة غولن، تطلب من الشباب المسلم، وتعلّمه في مدارسها وجامعاتها، تبنّي فرص العالم الغربي مع الاحتفاظ بـ«أساسيات الإسلام». أساسيات يرى البعض أنها تدنو عن الحدّ الأدنى، لتصل إلى «الانحراف».
والاعتدال الإسلامي في كتب غولن البالغ عددها 60 (بشأن الدين والسياسة والفنّ والرياضة والفكر) وآلاف مقالاته ودراساته التي تغزو مواقعه الإلكترونيّة المترجمة إلى عدد كبير من لغات العالم، يصل إلى حدّ أنه قد لا يجد القارئ في بعض كتاباته إلا ذكراً واحداً أو اثنين لكلمة «الله» أو «القرآن» أو النبي محمّد. عالمه مليء بالبذخ وسهرات الليالي، وهو أبعد ما يكون عن الصورة النمطيّة لرجال الدين المسلمين.
عولمة إسلاميّة
تزعّم غولن حركة «مدارس النور»، التي أسّسها المفكر والداعية التركي الأبرز، بديع الزمان سعيد النورسي (1877ـــ1960) وهي مدرسة إسلامية معاصرة تجديدية. ورحلة الصراع مع الحكم العلماني التركي بدأت معه في عام 1971 حين اعتُقل بعد الإنذار العسكري الموجه من الحكومة آنذاك، بتهمة «محاولة تغيير الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للنظام العلماني». ودام اعتقاله ستة أشهر، ثم أطلق سراحه.
انسحب من «النور» عام 1971 لأنه أراد تكوين حركة عالميّة يكون هو زعيمها الأوحد. وسرعان ما شملت مؤسساته خدمات التعليم الحديث، وإصدار عدد كبير من الصحف (أبرزها صحيفة «زمان» و«سيزنتي» و«يني أوميت» و«فونتان» و«ياغمور») والمجلات ووكالات الأنباء، إلى جانب محطة للإذاعة، ثمّ عدد من محطّات التلفزيون (atv) ودور النشر والمصارف، حتّى إنه أسّس عام 1994 نقابة الصحافيّين والكتّاب الأتراك التي لا يزال رئيسها الفخري. ورغم خروجه من جمعيّة «النور»، لا يزال غولن يُوصَف في تركيا بأنّه رئيس طائفة «نورجو» (النور).
وبحسب الأرقام التي يقدّمها العسكر المناوئ لغولن، فإنّ الجمعيات الإسلاميّة الخاضعة لمراقبة مشددة من الدولة، تملك 4123 شركة منضوية في سبع مجموعات قابضة، تأسّس معظمها خلال التسعينيات، ومعظمها يدور في فلك غولن. وقيمة استثمارات مؤسساته في تركيا وحدها، 1,5 مليار دولار.
ويعترف كل من أتباعه وأعدائه بأنّه، بفضله، أصبحت الدعوة الإسلامية اليوم «حقيقة في ملعب الكرة كما هي في مدرجات الجامعة، وفي صالونات الفنانين والشعراء كما هي في كراسي الأساتذة الجامعيّين وقاعات البحث، وتغلغلت في الأسواق ومراكز الشباب مثلما تألقت في أكاديميات العلوم ورسائل الدكتوراه»، على حدّ وصف الموقع الإلكتروني الإسلامي الشهير «إسلام أونلاين».
ومن أبرز ما أعطاه هذه الشهرة العالميّة، لقاءاته مع رؤساء الطوائف المسيحيّة واليهوديّة. فهو لم يتردّد عن عقد لقاءات «تاريخيّة» مع بابا روما السابق يوحنا بولس الثاني وبطريرك اسطنبول برثلماوس وكبير حاخامات شرقيي يهود إسرائيل إلياهو باكشي ـــ دورون. ويرى غولن نفسه ناطقاً باسم جميع المسلمين السنّة، بحيث يرى أنّ المذهب السنّي «قابل للتأقلم مع العالم الغربي وقيمه أكثر من جميع المذاهب الأخرى». وهو من أبرز من كتب ليبرهن أنّ الإيمان الديني يمكن إثباته علميّاً.
وفي وطنها الأم، تُعدّ حركة غولن مناقضة للنزعة القومية المتطرفة. لكن الحركة تتخذ في الخارج نكهة القومية التركية، حتّى إنّ معظم المتطوّعين والموظّفين الناشطين في مؤسساته، (عددهم 100 ألف)، وخصوصاً المدرّسين (لكون اهتمامه الأوّل ينصبّ على تعليم الأطفال من مختلف الأديان والحضارات)، هم من الأتراك. وفي قرغيزيا، وحتى في باكستان مثلاً، يتعلم تلاميذ مدارس غولن الأغاني التركيّة، وإنّ حركة غولن حققت وجوداً كبيراً في شمال العراق الكردي، عبر تأسيس مدارس ومستشفى، وجامعة. وهنا مصدر مشكلات إضافية مع قوميّي تركيا، رافعي شعار «تركيا للأتراك لا للأكراد».
من أقواله ومبادئه
ـــ الحوار بين الحضارات، والتسامح بين الأديان، وإدراج التعليم والتقنية الحديثة في الإعلام (إنترنت وتلفزيون ودعاية) في نشر الدين وأفكاره: «الديموقراطيّة هي، رغم جميع سيّئاتها، النظام الوحيد القابل للحياة، ويجب تثبيت المؤسسات الديموقراطية للوصول إلى زمن نجد فيه مجتمعاً يحترم الحريات والحقوق الفردية الكاملة».
ـــ «يمكن لتركيا أن تكون علمانية، لكن للأسف، تحوّلت العلمانيّة في تركيا إلى عمليّة إخراج الدين من المجتمع».
ـــ من أكثر «النظريّات» التي استدعت ردوداً وتعليقات مناهضة لغولن، وخصوصاً داخل تركيا، كان خطاباً ألقاه عام 2004، ساوى فيه بين الإلحاد والإرهاب.
ـــ أبرز «تجديداته» الدينيّة، هو تحريمه القتل تحت أيّ عذر. فالقتل يجب أن لا يحصل إلا خلال الحروب التي تعلنها الدولة حصراً: «لا أحد يمكنه أن يفتي بهذا الأمر، لا أحد يمكنه أن يتحوّل إلى قنبلة متفجّرة (في إشارة إلى العمليات الانتحاريّة) بين الناس، مهما تكن ديانة هؤلاء. لا أحد سيبلغ الجنّة إذا قتل شخصاً مهما كان الدافع. ليس مسموحاً لا لمجموعة أو لحزب أو لفريق أن يعلن الحرب، الدولة فقط تستطيع ذلك. وأي مجموعة تقود حرباً خارج إطار الدولة تكون مجموعة من المجرمين، ينطبق على عملهم وصف الإرهاب».
ـــ إحدى «النظريات» التي تسبّب لغولن بمشكلات فقهيّة مع عدد كبير من علماء الإسلام، هي جزمه بأنّه «لا يمكنني أن أتصوّر وجود أي شيء اسمه دولة إسلاميّة. هناك فقط أماكن يعيش فيها مسلمون».
ـــ «لا أعتقد أنّ المسلمين حاليّاً قادرون على التأثير في موازين القوى العالميّة... العالم الإسلامي اليوم متخلّف جدّاً، يمكننا ملاحظة ذلك من خلال الحجّ والمحاضرات... هؤلاء المسلمون ليسوا بمستوى حلّ مشكلات العالم». وهنا يجد القارئ الأساس النظري لأدوات عمل غولن ومؤسّساته. فالتخلّف لا يرى حلاً له إلا عبر مواكبة العصر و«إنجازات» الحداثة الغربية، من ديموقراطيّة وانفتاح وتطوّر علمي واقتصادي... لذلك يرى أنّ الاستفادة من أحدث التقنيات العلميّة («التي تعلو فوق كل شيء» على حدّ تعبيره) في الإعلام والعلم والتواصل والتعليم، هو الطريق لتقوية المسلمين وإخراجهم من التخلّف.
ـــ «أحد أكثر الأشخاص الذين أكرههم في العالم، هو أسامة بن لادن، فهو وسّخ وجه الإسلام، ومهما بذلنا من جهود لتصحيح الخطأ الذي تسبّب به (هجمات 11 أيلول)، فذلك سيأخذ سنوات طويلة».
العدوّ الأخطر
مشكلته السياسيّة الأشهر مع «النظام العلماني»، كانت في عام 1998، حين بثّ الإعلام الموالي للعلمانيّين، شريطاً مصوّراً لغولن، يدعو فيه أنصاره من أصحاب الوظائف الرفيعة في السلكين القضائي والعسكري إلى «العمل بصبر للسيطرة على الدولة». وكان غولن غادر البلاد إلى الولايات المتّحدة للعلاج قبل وقت قليل من هذه «الفضيحة». غير أنّ الرأي السائد يؤكّد أنه كان يدري أنّ هناك «مؤامرة» تُحاك ضدّه، لذلك استبق الحملة. وفي عام 2000، صدر أمر بتوقيفه ومحاكمته غيابياً، وعام 2003 فُتحت محاكمة أخرى بحقه بجرم «تأليف خلايا إجراميّة» تحضيراً للانقلاب على الدولة. غير أنّ غولن ادّعى أنّ خطاباته المسجّلة تلك، جرى تحويرها وتغيير السياق التي أتت به، إذ كان الهدف منها «حثّ مجموعة من ضبّاط الجيش والقضاة وموظفي القطاع العام (الذين يرون أنفسهم تلامذته) إلى الصبر والاستمرار في أداء واجبهم المهني، رغم منعهم من أداء شعائرهم الدينيّة علناً».
ومشكلة العلمانيّين مع غولن لا تقتصر على امبراطوريّته الإسلاميّة التي يقودها، بل تمتدّ على ما يرونها «فتح الباب أمام الغرب ليخترق تركيا»، من خلال العلاقات العميقة التي تجمع الداعية مع واشنطن وعواصم الغرب. علاقة يضعها الرجل في خانة الانفتاح، ويسمّيها جنرالات وشوفينيّو أنقرة «عمالة».
وحرب «النخبة العلمانيّة» معه ومع حركته، امتدّت حسب الحقبات، من داخل مؤسسات الدولة، إلى ما وراء الحدود التركيّة. ففي عام 1986، طرد الجيش كتيبة كاملة من صفوفه، بحجّة أنّ غولن «زرعها» في الجيش، ودائماً الحجّة نفسها، «بهدف الانقلاب على القيم العلمانية للدولة».
ولحق به جنرالات تركيا إلى روسيا، حيث كتب ابن رئيس تحرير صحيفة «جمهوريات» (المتحدّثة باسم العلمانيين المتشدّدين) عنه في إحدى الصحف الروسيّة مدّعياً أنه يتزعّم عصابة إرهابيّة روسيّة تُدعى (nurcus). غير أنّ القضاء الروسي لم يسر في الدعوى القانونيّة، وأنكر أن يكون لغولن أي صلة بالعصابة المذكورة.
ولتبرئته في عامي 2006 و 2008، قصّة أخرى. فالقاضي زكريا أوز، الذي أصدر حكم البراءة بحقّه، شنّ عليه العلمانيون هجوماً قويّاً، وتلقّى تهديدات بالقتل على خلفيّة اتهامه بأنه أحد أتباع غولن، وأنه قيادي في حزب «العدالة والتنمية» (الذي ينظر إليه العلمانيّون على أنّه وريث فكر غولن المعادي للعلمانيّة) وأنّ زوجته ترتدي الحجاب الإسلامي (وهو ما ظهر أنه غير صحيح لاحقاً).
قد يكون أكثر ما يثير في قضيّة غولن، هو تجنّد رموز من المحافظين الجدد الأميركيين للانضمام إلى الحملة المعادية لغولن، بدعوى أنه يسعى لفرض حكم الشريعة في تركيا. مايكل روبين، أحد الكتّاب البارزين في معسكر المحافظين الجدد، أعاد إشعال الحرب الإعلاميّة ضدّ غولن، كاشفاً عن قرب موعد عودته إلى تركيا (في غضون أشهر!). مقال روبين أثار موجة ردود أعنفها من الكاتب الشهير في صحيفة «زمان»، التي يملكها غولن، عبد الحميد بيليسي. مقال روبين في 14 من الشهر الجاري في «ناشونال ريفيو أونلاين»، أجرى مقارنة طويلة بين شخصيّة الخميني ومسيرته وطرق عمله في السبعينيات من القرن الماضي، التي أوصلته إلى طهران «بطلاً لجمهوريّة إسلاميّة»، مع مسيرة غولن. حتّى إنّ الكاتب الأميركي استعار عناوين سبق أن استخدمتها صحيفة «جمهورييت» (التي وصفها بأنها «نيويورك تايمز تركيا»)، من نوع «غولن سيحوّل أنقرة واسطنبول إلى طهران ثانية»، أو «غولن شبيه الخميني». وروبين يذهب أبعد من ذلك، ليرى أنّ الخميني جسّد لأتباعه «المهدي المنتظر»، وغولن سيجسّد بدوره الخليفة العثماني الذي انتهى عهده في الامبراطوريّة العثمانيّة عام 1924.