strong>يطرح المهندس المعمار والأستاذ الجامعي رهيف فياض في هذه الدراسة، رؤية نقديّة لما هو عليه حال العمارة في لبنان والعالم العربي، من ناحية الأخذ بـ«عمارة العولمة» الغربية وتطبيقها على حياتنا من دون المحافظة على هويّتنا. هكذا تضيع الهويّة الشرقية في «علب» زجاجية وإسمنتيّة لا توحي بالحياة في أي شكل من الأشكال
رهيف فياض

سأنفُذُ إلى مضمون مؤتمركم «الإسكان المدينيُّ في السودان»، عبر مسارٍ اخترتُه موازياً لموضوعاته التسع. سأتسلَّلُ إليه من نافذةٍ، يفتحُ نصفها المعمارُ والمنظِّر الإيطالي ألدوروسي في كتابه «عمارة المدينة»، عندما يرى أن عمارة المدينة، إنما تصنعها الصروحُ، ومباني السكن خاصةً، وكل المظاهر المدينية التي يحتويها المجال المسكون. ويفتحُ نصفَها الثاني المعمار والمنظِّر العراقي رفعة الجادرجي، عندما يرى، أن طابع عمارة المدينة إنما تصنعه قيمتها الرمزية أي هُويتها، أو بتعبير آخر هُويتنا، نحن الذين نُصمِّمها ونسكنها.
فمسألة الطابع أو الهُويَة في عمارة مدننا العربية اليوم، إنما تمرُّ عبر إشكالية الهُوية والمعاصرة، ولا أقول «الحداثة»، إذ لا أرى «حداثةً معمارية» كما عرَّفها روّادها، في عمارة «الطرز العالمي» المتفشِّية اليوم.

«الهُوية المعمارية» والمُعاصَرة

كيف أنظُرُ إلى العلاقة بين المقولتين؟ وقد أردتها، في عنوان هذا النص؟
الهُوية في عمارة المدينة، وتحدِّيات المعاصرة علاقةً تصادميَّةً، إذ يحكمها التحدِّي! التحدِّي المستمر بالتأكيد. إذْ أرى المُعاصرة، بأن نعيش فعلاً في العصرِ الذي نحن فيه، نتأثرَّ به، وإذْ تتغيَّر العصورُ مع الزمن، علينا كي نعيش العصورَ المتغيِّرة هذه أن نتغيَّر معها.
علينا، ونحن نواجهُ تحدِّياتٍ متجدِّدة مستمرَّة، باستمرار الحياة. علينا أن نتجدَّد معها بشكلٍ موازٍ، أن نتغيَّر، أكرِّر، أن نشاركَ ونحن نتغيَّر، في صنع المتغيِّر، لنعيش العصرَ بكلِّ جديده.
ولأنني أفهم هُويتنا، أصالتنا، والصفات الأساسية التي تصنع الفرق بيننا وبين الآخر، فنعرف من خلالها أنفسنا، كما نعرف الآخرين، أرى أن النجاح في التفتيش الصعب، عن السُبُل التي تجعلنا نعيش في عصرنا، نستوعبُ تحدِّياتِه، مفترضاً أن الظروف الكونية المحيطة بنا، تسمح لنا بدورٍ ما، في صناعةِ العصرِ. (1)
أرى أن هذا النجاح، وفي مثل هذه الظروفِ الكونيَّةِ المُفترضة، يكمُن في قدرتنا على إنتاج هُويَّةٍ متجدِّدة، متغيّرة دائماً، تنهلُ أبداً من كل عطاءٍ متطوِّرٍ تعبقُ به العصور
المتغيِّرة.
إنّ النجاح في هذا التفتيش الشاق عن الوسائل التي تجعلنا نعيش في عصرنا، هو إذاً، في إنتاج هويَّةٍ متحوِّلةٍ في جوهرها، يساهمُ التراثي الثابت فيها في صنع الحاضر، ويكون الحاضرُ جزءاً من المستقبل. فتكون المعاصرةُ، بهذا المعنى، من صنعِ الهُوية، تعبِّر عن تواصلٍ ثقافيٍّ لا انقطاع فيه ولا تناقض بين مقولاته، تراثٌ، هُويةٌ، ومعاصرةٌ.
ويأتي الحاضر عندها وقد ولد من رحم الماضي، وإن بدا غالباً وقد قطع معه. وإذا أخذنا العمارة مثالاً وهي موضوعنا، نقول، كما وُلدت أعمال أدولف لوز من عمارة مدينة فيينا الصارمة، أو كما طَبع الطرزُ «الباروك» الفرنسي، أعمال لوكوربوزييه الأخيرة، أو كما جعل الجادرجي من معهدٍ للتدريبِ المهني في العراق، قصراً، روحه من روحِ قصر الأخيضر.

معماريّون مقاومون في زمن الكولونياليّة

الظروف الكونيَّة التي افترضناها، العالم فيها متوازن تسوده العدالة، أو شيءٌ منها، يتسع للجميع، هُوية، ثقافة، وخصوصية، ونحن فيه، متجدِّدون، منفتحون، شرطُنا الوحيد، أن نكون «نحن» أن نكون كما نريد، لا كما يُراد لنا أن نكون. هذا في العالم المفترض. ولكن ماذا في عالم الواقع؟ عالم اليوم؟
خلال قرنين ونيِّف، من أوائل القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، فَرَض الغربُ الرأسماليُّ الصناعي على العالم بأكمله، بإنتاجيّة الآلة وبالقمع المسلَّح، رؤيته، وثقافته، وقيَمَه، على مُعظم الأمم والأوطان والشعوب، وساقها مكبَّلةً، مفكَّكةً خاضعةً، إلى حيث يريدها أن تكون، وسمّى ذلك قيادة هذه الأمم والأوطان والشعوب، وإن مرغمةً، إلى العقلانية، إلى الرقي والتقدم، إلى «الحداثة».
وجاء الغزو مسلّحاً، إلحاقياً، إلغائياً... جاء يستهدفُ كل مقوّمات السيادة الوطنية والهُوية القومية.
استهدف اللغة أولاً، ومثال الجزائر صارخٌ، ومثلها المغرب العربي بكامله. واستهدف المجتمعَ، وطرق العيش، والثقافة، وكلَّ الخصوصيات. وعدّ في بعض الحالات، الأرض والناس جزءاً من أرضه، ومن ناسه، وراء البحار.
لم تجابهنا المعاصرةُ إذاً، الوافدةُ مع «الحداثة اليافعة»، بتحدٍّ تقنيٍّ أو جماليّ، علينا أن نتعامل معه من موقع المعرفة، فنفهمه، ونطوّعه، ونستخدمه بما يرقى بنا، ولا يتنافى مع خصوصياتنا، مع أنماط حياتنا، ونحن أدرى بُسبُل تطويرها. بل جابهتنا خاصةً، بالإصرار على إلغاء تاريخنا من ذاكرتنا، وباستبداله بتاريخٍ جديدٍ، هي بداياته، وهي التي تحدِّد، بمعزلٍ عنّا وبتواطئٍ من عندنا، مسيرته، وأهدافه.
لم تقف «المعاصرةُ» إذاً في عالم الكولونيالية، عند هذا التحدي لقدراتنا ولمعارفنا، بل تعدَّت ذلك، لتصبح وسيلة إخضاعنا لنَهبنا. وكان على معماريّينا، كي يكونوا معاصرين طليعيين في المهنة وفي المجتمع، كان عليهم أن يكونوا مقاومين، أولاً.
وعرفنا في لبنان، في الثلث الأول من القرن العشرين، معماريين معاصرين حقيقيين أمثال يوسف أفتيموس، وفردنان داغر، وبهجت عبد النور، وأنطون تابت وغيرهم.
إنهم معماريون مقاومون، عاشوا عصرهم، وكانت حياتُهم خصبةً في المهنةِ وفي المجتمع. رفضوا أن يذوبوا في خصوصيات الثقافة الغربية المسيطرة، إلا أنهم فهموا في الوقت نفسه، تقنية الخرسانة المسلَّحة الوافدة، وأدركوا كلَّ إمكاناتِها الكامنة، في تحرير التصميم المعماري من قيد وسائل البنيان العتيقة، ممّا ساعد في إنتاج حيّز مبني، مضيافٍ، ملتصقٍ بأنماط الحياة عندنا. فألّفوا، وأحسنوا استعمال الشفافية «الحديثة» في الواجهات، تحكي تراتبية الوظائف خلفها، وجعلوا من فُسحة الضوءِ المرنة، تنتجها الهياكل الإنشائية الجديدة، نغماً مشرقياً واضحاً في انتمائه وهُويته. فجاءت عمارتهم، وهي وليدة مقاومتهم، في المكان، وكأنها هناك، منذ أن كان المكان.

معماريّون مقاومون في زمن الاستقلال

في مواجهة التحديات المعاصرة إذاً أيام الكولونيالية، نجح معماريونا المقاومون في بدايات القرن العشرين، في مقارعة تحدٍّ، كان في عمارة ذلك الزمن، ثلاثيّ الأبعاد، في التقنية الإنشائية، في المفهوم، وفي الدلالة. إلا أن النجاح لم يؤسس لولادة تيارٍ عريضٍ مقاوم.
فالتحدي هو تقني في الظاهر، وهُوية العمارة الجميلة يُمكِن تجاوزُها، خاصةً إذا ارتهنت بالسوق، وباقتصاد الريع العقاري، تحميه عندنا كما عند غيرنا، رأسمالية متوحِّشة حليفة السلطة المحليَّة، وحليفة المحتل في آن. فتراجعت المقاومةُ، وعمّت عمارة «الطرز الدولي الموحَّدة» كلَّ الأمكنة، تُكرِّر نفسها ببلادةٍ، وتساهم، مع غيرها من مكوِّنات اقتصاد الريع، في تزنير عواصمنا العربية، بأحزمة البؤس والتهميش، والفوضى، والعشوائية.
وإذْ ازدهرت أنماط تصنيع البنيان، أثناء إعادة إعمار المدن التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، وبعدها، وانتشرت، مع «الحداثة»، المواد الجديدةُ، يعمِّمها منتجُها المسيطر، وحليفُه المحلي مروِّجها، فإن حسن فتحي، المعمار المصري المقاوم، لم ينظر إلى المعاصرة في زمنه، بتقنياتها وبموادها، كمعطى إيجابي بصورة مطلقة، على المصريين أن يلحقوا بها، ليرقوا بعيشهم وبعمارتهم.
وضع حسن فتحي معاصرة زمنه، في الظرف التاريخي الذي أدى إلى نشأتها. ونقل الصورة إلى المجتمع العربي المصري المكبَّل بالتبعية، بالفقر وبالتخلف، فلم ير في الصورة هذه، المنقولةِ «طبق الأصل»، رافعةً ترقى بعيش المصريين وبعمارتهم. بل رأى فيها أداةً تُساعد المحتل في تثبيت سيطرته، ووسيلةً مقنَّعة، تُطيل عمر تبعية مصر، حين تتعطَّل الوسائل الأخرى المكشوفة. فنبذ التقنيات تُنقل بصورة عشوائية، وشجب المواد الحديثة تُستعمل بشكلٍ أعمى، وصمَّم مقابل ذلك، عمارةً تقليدية، لصيقة الريف المصري وفلاحيه. صمَّمها لتُبنى بمواد تقليدية، فبناها الفلاحون، وجاءت عمارةً إنسانيةً، منتميةً إلى ناسها ومكانها في مصر، وخارجها.
وفي السنوات التي تلت، كان هاجس المعاصرة الشغل الشاغل، لرفعة الجادرجي وأحمد مكِّية في العراق، ولبعض المعماريين في لبنان أمثال جورج ريس، وواثق أديب، وشارل شايير، وجوزف كرم، وعاصم سلام، وغيرهم كثر في لبنان، وفي الوطن العربي.
لم يغب هاجس الهُوية، بجذرها الثقافي التراثي، عن أعمال رفعة الجادرجي. فاجتهد في التنقيب عن طُرقٍ مبتكرةٍ، لاستعمال التقنيات الجديدة والمواد الحديثة في عمارته، كي تأتي ابنة عصرها من جهة، وكي نستطيع أن نرى فيها أنفسنا من جهة أخرى. فاستنبط لوظائف معاصرة، أشكالاً مستوحاةً من الماضي، وحاول أن يأتي التأليفُ، صَهْراً لروح التراث في الجديد المعاصر.
أما أحمد مكية، فقد سكنه هاجس الهوية في كل أعماله، ولم يأنف من اللجوء إلى ما قد نسمّيه اليوم أسلوب اللصق، أو المزج الانتقائي للأنماط، مستبقاً بعقود، ما روَّجه لاحقاً طرز «ما بعد الحداثة». فاستعمل بعضَ المفرداتِ الموروثةِ، ذات الهُوية الواضحة وأدخلها كما هي، أو مع بعض التعديل، في عمارته التي صيغت بروح عصره، وبُنيت كلُّها بمواد عصره وبتقنياته، فشعرنا معها بالتواصل بين المعاصرة والتاريخ.
أما المعماريون اللبنانيون الذين ذكرتهم، فلم ينظروا إلى علاقة المعاصرة بالهُوية، إلا من منظار المكان، بعين الجغرافيا، لا بعين التاريخ والتراث. بالعين التي تُحسن قراءة الموقع، وفيه شمس البادية، ومياه البحر المتوسط الزرقاء في آن. فيه المصاطب الصخرية، وظلالُ أشجار السنديان والخرّوب. فبنوا عمارةً أنيقةً، منتظمةَ الأحجامِ، معتدلةَ الارتفاعِ، متناسقةَ القياسات. وأحسنوا تغليفها بكاسرات الشمس، بالنتوءات وبالشرفات، ربما استلهموها من العمارة التي أتت إلينا مع «الحداثة»، من بعض بلدان الأطراف الدافئة، من البرازيل والأرجنتين وغيرها.
لم توصلنا هذه العمارة إلى قراءة ذاتنا التاريخية فيها، وإلى استشفاف هُويتنا في تفاصيلها كما عند مكية، أو في روحها كما عند الجادرجي. إلا أنها بدت أليفة، لم تُشعرنا بالغربة، ولم تُشعرنا التقنياتُ المعاصرةُ المستعملةُ فيها، بالفوقية، بالتسلّط، وبالهيمنة.

الغزو المعاصر من بوّابة العولمة

العلاقةُ التصادميَّة إذاً، بين الهُوية المعمارية والمعاصرة، بدأت باعتقادي منذ قرنين ونيِّف، مع بدء العصور الحديثة عندنا، واستمرت خلال هذين القرنين، وكان لها في كل حقبة تاريخية طابعاً مختلفاً، وخاصيات متغيرة. إلا أن الثابت خلال هذين القرنين الطويلين، هو أن التطلع إلى المعاصرة من موقع الهُوية كما عرَّفناها وإن متجددة متحوّلة، يُصبح أكثر صعوبة، كلما ضاقت الدائرة التي تَصنع المعاصرة هذه، تفرضُها على الجميع، تُغيِّر لهم حياتهم، دون أن تُتاحَ لهم فسحةٌ للمساهمة في صنعها.
يُصبح هذا التطلع أكثر صعوبة، لا بل مستحيلاً، كلما ازدادت الهوَّةُ بين المركزِ المتقدِّمِ المتطوِّر المقرِّر، وبين الأطراف الغارقةِ في الفقرِ والتخلُّف، يوهمونها أن لا خروج لها من هذه الهوَّةِ السحيقة، إلا بالتعلق المطلق بحبل التبعية.
وتتساوى من هذا المنظار، نهايةُ القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، وما تحمِلهُ من إشاراتٍ عمّا سيكون عليه القرن الحالي. فأرى، وأنا القادم من واجهة الوطن العربي على البحر الأبيض المتوسط، أن الغربَ الصناعي، المتعدِّد الرؤوس واللغات، قد غزانا في أوائل القرن التاسع عشر، من بوّابة ترهُّلِ السلطنة العثمانية، فالشاً فوق ترابنا ثقافته، وخصوصياته، وسلعَه، وكلَّ تقنياته، تفرضُها السوقُ حاجةً حقيقيةً أحياناً، ووهميةً غالباً.
وها هو يستمرُّ في غزوه لنا اليوم، أميركيّاً، موحّد الرأس واللغة، من بوابة هزائمنا، ومن بوابة «العولمة» بوابة الشركات المتعددة الجنسية، والكتلة المالية المسيطرة على مصائر كل الناس، أو بما هو أسوأ من هذه أو تلك، بوّابة الكولونيالية الجديدة، والاحتلال العسكري المباشر.

«عمارة الطرز العالمي» والعمارة المعاصرة

والعائد إلى بيروت من ضواحي باريس، أو العائد إليها من الرياض، من دبي وأبو ظبي وقطر، يرى بصمات هذا الغزو، في حمّى البنيان، تستعر في كل هذه الأمكنة. ويُدرك أن التقنيات المعاصرة قد فَرضت ما يصحُّ ربّما أن نسمّيه «الطبعة الموحدة لعمارة اليوم»، تنتشرُ في كل الظروف المناخية، وفي أحشاء كل المجتمعات...! إنه يدرك أن «العمارة» هذه، قد تخلَّت عن همٍّ استراتيجيٍّ، ينتُج من موقعها عند التقاطع بين الفن، والحاجة إلى الانتفاع بما يبنى.
وهذه الحاجة هي دائماً في أساس كل بناء، وفي أساس كل «عمارة»، هذا الهم الاستراتيجي، الناتج من الموقع عند التقاطع بين الجميل والمفيد، بين المتعة البصرية يولِّدها فعل معماريٌ حقيقي، وبين الراحة التي ننشدها ونحن نأوي إليه مَسْكناً، مكتباً، مصنعاً أو مدرسة.
لم يعد الهمُّ الاستراتيجي في التأليف أيضاً، وهو وليد الموقع عند تقاطع القيم التي تختزنها العمارة، يندرجُ في تنظيم الإيقاع بين الصلب والشفاف، بين النور، والظلال، والعتمة. فلم تعد الواجهات التي حرَّرتها التقنيات، بل لم يعد غلاف المبنى بكامله، معبِّراً عن وظائفه، يُظهرها مقروءة بشفافية، المهمّ منها في موقعه وله وزنه، وما هو أقلُّ أهميةً في موقعٍ أكثر تواضعاً.
ولم تعد الواجهات، بل لم يعد الغلاف فـي «الطبعة العالمية لعمارة اليوم المعاصرة»، لغةً، واجِبُها أن تحكي في الحيِّز العام، عن علاقة المجال المبنيِّ بجواره. لغةٌ تخاطب عبر هذا الغلاف، البيئة الإنسانية حولها.
تركت «العمارةُ» كلَّ هذه الهموم الاستراتيجية، وأصبحت بغلافها، «زياً» أو «ضرباً من فنون الألبسة الراقية». فـ«عمارة اليوم»، موحِّدة الزيِّ هي، واحدة اللباس، كما صبايا اليوم تماماً، وقد فرضت السوق عليهن لباساً موحَّداً، هو الجينز اللاصق الممشوق ذو الجيوب الخلفية المزركشة، والسترة الملوَّنة المختصرة تغطِّي أعلى الجسد، والبطن عارٍ. فرضت السوقُ عليهنَ أينما وُجدن، زياً موحداً، اخترنه بما يشبه الحرية، أو بشكل أدق، بما يعتقدْنَ أنها الحريَّةُ الكاملة.
والشعورُ بالحرية، أو الشعور بوهم الحرية هذا، عند الاختيار، هو إحدى مميزات السوق التي تتحكَّم بها وسائل الإعلام المرئية خاصة. «فالطبعة العالمية لعمارة اليوم المعاصرة»، مزهوةٌ بوهم حريتها، في اختيار شكلها وزيَّها، هي، كالصبايا في أيامنا، نحيلةٌ، عموديةٌ، ممشوقةٌ، كما يقولون، وزيها الموحَّد، هو زجاجيٌّ في الغالب، أسودُ اللون، داكنٌ. إنه أملسُ كالجلد، إنه جلد «العمارة». وهو قناعٌ كاذبٌ يحجب خلفه شبكات معقدة، أين منها تعقيدات الجسم البشري تحت جلده.

الهويّة وتحدّيات المعاصَرة

وكأن في الأمر مقاربةً متناقضةً لفهم العمارة، قائمة، على بساطة فاقعةٍ في الغلاف، وتعقيدٍ بالغٍ في كل ما يلفّه هذا الغلاف. أو أنها، مقاربةٌ واحدةٌ، لكل ما تنتجه التكنولوجيا المتقدمة المعاصرة، مهما كانت استعمالات هذا المُنْتَج.
من السيارة المعقّدة الأحشاء خلف غطائها الأملس اللمّاع، إلى الطائرة المطمئنة بمظهرها، ونحن جالسون في مقاعد المسافرين، المفزعة بتعقيداتها عندما نكون في قمرة قائدها. غِلافُ «العمارة المعاصرة» هو قناعٌ كاذبٌ، إذ إنه لا يكتفي بحجب الشبكات المعقدة خلفه، بل غالباً ما يحجب الوظيفة أيضاً. فهذا المبنى الممشوق القد، الأملس الجلد، هو مكاتبُ تارةً، ومساكن تارةً أخرى، معاهدُ تارةً، ومخازنُ للكتب تارةً أخرى.
عليكَ في منزلك الزجاجيّ الغلاف، أن تستبدل قطعةً كُسرت، بأخرى تحملُ الرقم ذاته، لأن في الرقم طريقك إلى قطعة الزجاج المناسبة. وعليك إذا التهَمَتْ أشعَةُ الشمسِ الحارقةِ صفحات الكتبِ في المستودعات الزجاجية، أن تعمد إلى حمايتها بكواسرَ للشمسِ من الخشب، تضعُها في الداخل، خلف الزجاج.
عليك إذاً أن تعالج كلَّ المشكلات يُنتجها الغلافُ، في الداخل عندك خلف الزجاج الجلد القناع، كي يبقى الجلدُ أملسَ، لمّاعاً، يُبهرك من الخارج. وعليك في الوقت نفسه أن تُدرك أن لهذا الجلد، الزجاجي المتعدِّد الوظائف، وظيفةً هامةً أخرى هي كونُه قبل كل ذلك، خدعةً.
فهو خدعةٌ توحي، بالعمارة العابرة، ببقاءٍ مؤقتٍ في موقعها. كلُّ شيءٍ هو عابر في هذا العالم، يقول المنظِّرون. كل شيءٍ في البنى، وفي القناعات، هو مهتزٌّ اليوم، غيرُ ثابتٍ، فلماذا تريد أن تظهر عمارتك ثابتةً؟ راسخةً في الأرض؟ وكأنك تريدُها أن تنتقل شهادةً من زمنك إلى الأزمان المقبلة...؟
الزجاج اللَّماع، ملصوقاً على «المكعَّب المارد» من الخارج، يجعل هذا «المارد» يختفي في الحيّز المبني الذي ينعكسُ على مراياه متكسّراً، فتمرُّ أمام «الماردِ» ولا تراه، فيتَّسع الحيِّزُ الصغيرُ، ويبدو الشارع الضيِّقُ فسيحاً.

الإبهار والغواية

على «العمارة المعاصرة» إذاً، وقد أضحت غلافاً يقنِّع أحشاءً، وغطاءً أملسَ يغلِّف تقنياتٍ حسَّاسةً عاليةَ الكفاءة، سريعة العطب... على العمارة وقد أصبحت من هذا المنظار سلعةً، عليها كالسلع الأخرى أن لا تعمِّر...
عليها أن تُستهلك فتُستبدَل بسرعة، وعلى التقنيات أن تَستبدل الأساليب الإنشائية بأخرى، والمواد المستعملة بغيرها، وذلك كي يستمر الإنتاج.
وعلى السوق أن تنظِّم كل ذلك. ورأسُ المال مزهوَّاً في «العمارة»، يكتفي بإعادة إنتاج نفسه، فتعكُسُ العمارةُ بوقاحةٍ قوَّة رأس المال منتِجُها.
إلا أن عمارة الغلاف، الجلد، القناع، الخدعة، لا ترفض الزينة، رغم كونها تُنتج مكررةً، منمَّطةً، خاليةً من أي تعبير. فلباسها الموحَّد، وهو زجاجيٌّ داكن اللون غالباً، يُطرَّز بنسبٍ مختلفة، وبمواد متنوعة. إنه يُطرَّز بالغرانيت، أو بصفائحَ معدنية متقاربَة اللونِ كلُّها، معلَّقة على خطوط ٍ أفقيةٍ تزنِّر كامل المبنى، أو عموديةٍ تُبالغ في الدلالة على ارتفاعه.
إنها علاماتٌ مهمَّةٌ تدلُّ على «الدارج» على «الموضة»، على التقنيات الجديدة في اللصق والتعليق، وقد فرضتها السوقُ حاجةً إنشائيةً في غالبية الأعمال المعمارية المعاصرة. وتتعدى هذه الخطوط في تتابعها، دور الأقنية الحاملة، لتساهم في تطريز الغلاف، فتخطو معها عمارةُ الطرزِ العالميِّ المعاصِرة، خطوةً حاسمةً نحو الإبهار.
فالعمارة هذه، ليست لمَّاعة بمراياها العاكسة فقط، بل إن كل ما فيها، هو لمَّاع. وكالغانية غطَّت وجهها، وجسدها بالمساحيق وبالملوَّنات، تُحاول عِمارةُ «الطرز العالمي المعاصرة» أن تُغوي، فتقنِّع الهيكل الخرساني الثقيل بالزجاج، وتعلِّق الخشب الملوَّن أو الغرانيت وسطه، لمزيد من الزينة.
الزجاج غطاءُ الخرسانة، والزجاج معتِمٌ، والزجاج ملوَّنٌ، والزجاجُ مضاءٌ، والزجاج ثابتٌ ملصوق دون إطار، والزجاج بإطار متحرِّك يسمح بدخول بعض الهواء.

«العمارة» سلعةٌ واحدةٌ كما السيّارة الواحدةوتصبحُ السيَّارة، في زحمة التنافس هذه، وهي «سيدة» وسائل النقل في عصرنا، صيغت خصّيصاً لها نظريات «التنظيم المديني القائم على الشبكات»، فقامت بفعله الأوتوسترادات العريضة داخل المدن وخارجها، وزنَّرتها المخارج الدائرية.
تصبح «السيارة السيدة» هذه، وهي مُنتَج تكنولوجي صافٍ، غطاءً أملسَ لمَّاعاً، جلداً ناعماً تخاله، يوحي بالديناميكية، ويقنِّعُ ببراءة باهرةٍ، أحشاء بالغة التعقيد. ترفعُ الغطاء، فلا ترى تحته مكاناً يتسلَّل منه الهواء، فقد غصَّ المكانُ، بالشبكاتِ، وبالنظُم المختلفة، لا يفكُّ رموزها إلا الحاسوب الذي نظَّمها.
وتنحو العمارةُ، وسط التنظيم المديني الذي وصفناه، منحى السيارة، وتُصبح مثلها سلعةً، إلكترونيةً، تكنولوجيةً، باهرةً بامتياز... غلافُها بسيطٌ لمَّاع هو جلدُها يقنِّع أحشاءها، ويخفي تعقيداتِها، ويسلِّم قدر الذين هم داخلها، إلى «نظامِ إدارة المبنى» يتحكَّم به حاسوبٌ قابع في أحد الأقبية. وكما السيارة واحدةٌ، «عمارة الطرز العالمي المعاصرة» هي واحدةٌ أيضاً:
هي واحدة لا تأبه بالبيئة الطبيعية أو المبنية، لا تكترث بالموقع، ولا تُعطي المكانَ أي وزنٍ، أو أي تأثير. هي واحدةٌ عند الشاطئ وفي الجبال. واحدةٌ في الصحراء المُحرقة وفي الأصقاع المجلَّدة، تُحارب البردَ القارسَ بالعوازِلِ، وبالهواء الساخن يُنفخ في مجارٍ، وتُحارب الحرارَةَ المُحرقةَ بالعوازل، وبالهواءِ البارد يُنفَخُ في مجارٍ هو الآخر.
لا تأبهُ بالأمطار، ولا تكترثُ بأشعة الشمس، سيَّان عندها العواصفُ الثلجية أو العواصف الرملية. تتدلَّى سلالُ التنظيف المتحركة أمام غلافها الزجاجي على مدار السنة، تُزيل آثار الثلوج هنا، وتكنِّس الغبارَ والأوساخَ والرمالَ، هناك. هذا إذا لم يبالغ رأس المال في غطرسته، فلم يستعمل الزجاجَ ذا الألواح الثلاثة، حيث اللوح الخارجي ذاتي التنظيف.
وهي واحدةٌ مهما كان نوع الانتفاع بها، أكرِّر. وهي واحدةٌ بوحدةِ المواد تصنَعُ كسوتها، تكوِّن غلافها، وغلافُها يختصرها، أكرِّرُ، مرةً أخرى. إنها من صنع بائع السلعة ومروِّجها.
وبائع الزجاج في هذا المجال، مصمِّم مبدعٌ بامتياز، يركِّب قطعها الظاهرة قطعةً قطعةً، وكل ما فيها مشهدي استعراضي. لا دور للمعمار المصمم فيها إلا دور المزيِّن مع عارضة الأزياء، يُجمِّلها بنافذة، يُكحِّلها بصفّين من الغرانيت الأسود، يشير إلى بوّابتها بالخشب، كما يشير الطلاءُ الأحمرُ إلى شفاه النسوة، يتلذذ بالنظر إلى الخِدَع يستنبطُها ليُخفي عيوبها.
عمارةُ اليوم، «عمارةُ الطرز العالمي المعاصرة»، مزيَّفة، وكل إيحاءاتها كاذبة. وحده، إيحاؤها بأنها مجمّعة من قطع مرقّمة، تحدّد موقعها على الخطوط الحاملة، هو إيحاءٌ جريءٌ وصادقٌ.
غريبٌ هذا الشعور الذي ينتابك وأنت أمامها، يدفعك بقوة، كي تبدأ بتفكيكها فوراً لتنقلها، ثم تعيد تركيبها في مكان آخر ربما جاءت فيه، على شيء من التناغم مع محيطها. غريبٌ، كم تبدو نافرةً في المكان حيث توجد، كم تبدو مفتعلةً، مرميَّةً هناك من دون جذور.
العمارة الكونية، عمارة كل الأمكنة، هي «كالغانية» لا مكان خاصّاً بها وإن حاولت الانتماء، إنها لكل الأمكنة. إنها «اللاعمارة» إذا صح التعبير.
فالعمارة منذ أن وجدت هي وليدة المكان، والمكانُ من صنعِ الزمان، وهو مليءٌ بالناس، بالرموز، وبالذاكرة.

النفي المزدوج للعمارة وللهويّة

لا أرى إذاً، في التكنولوجيا المتقدمة، تُصمِّم «عمارة» اليوم وتَصنعُها في كلِّ مكانٍ، تحدياً للهُوية المعمارية فقط، بل أرى فيها نفياً مزدوجاً: نفياً للعمارة في دلالتها الإنسانية، ونفياً للعمارة في انتمائها في المكان وفي الزمان، أي نفياً لهُويتها.
«فعمارة» اليوم، عمارة التقنيات الرائجة، هي عدائيةٌ في إطلالتها أحياناً، لا تدعوك إلى العيش بداخلها بدفءٍ وراحةٍ، ولا تحمِلُ إليك الشعور بالاطمئنان. بل ربما أثارت فيك الخوفَ والارتباك، بكلِّ الغموض الذي تغلّفه شفافيتها المفتعلة.
إنها، بإصرارها على الإيحاء بالوجود العابر في المكان، لا توحي بالاستقرار. وأرى مفارقة كبرى في هذا الإيحاء، في زمن الاضطراب الشامل زمننا، والناس هم، بأمسِّ الحاجة إلى كل ما يُشعرهم بالاستقرار وبالاطمئنان. وللحيِّز المبنيِّ حولهم، دورٌ كبيرٌ في ذلك.
فالبيتُ، في عمارة اليوم، وهو مأوانا وملجأنا، والمكانُ الذي «يسترنا» كما يُقال عندنا... إنّ البيتَ، يبدو عارياً في عمارة اليوم، لا شيء فيه يستُرُ، أو يُضفي شعوراً بالدفء والحميمية.
ومنذ أن خرجت العمارةُ من نطاق سيطرة الحِرَفي، يتصوَّرُها جميلةً ويصنعُها بيديه، فتنتصب جميلةً بالفعل.
منذ أن خرجت العمارة من هذا النطاق، ودخلت حيِّز التقنيات المتعددة، والوظائف المتشابكة، منذ «الحداثة» ربما، والعمارة كما أشرنا تقف في هذا التقاطع الخصب، بين الفن بقيمته الجمالية، من جهة، وبين ضرورة الانتفاع بما يُبنى من جهة أخرى، بما يُضيف إلى القيمة الجمالية قيماً أخرى منحازة إلى ما يرقى بحياة الناس ويغنيها.
فللتقنيات الجديدة إذاً، التي نسيطر عليها، دورٌ هام في تحسين مستوى حياة الناس، وإن اقتصر ذلك غالباً على تحسين ظروف حياة البعض. وتبقى هذه التقنيات رُغم ضيقِِ رُقعة المستفدين منها، مُنتجاً علمياً لخير البشرية جمعاء يعمل الجميع للوصول إليه، وإن اكتفى معظمهم بالحلم به.
ولكن... هل يندرجُ دائماً دورُ التكنولوجيا المتقدمة في العمارة، في حدود حاجاتنا الحقيقية؟ وفي حدود سيطرتنا الفعلية؟ فتقدّم لنا دائماً المفيد والمريح؟ أم تراها قد أصبحت تسيطِرُ علينا غالباً، تسلبنا إنسانيّتنا، وتحوِّل كل ما تتداوله يدانا، سلعةً باذخةً معقَّدةً، سريعةَ العطب، تُستهْلكُ بسرعة، فتُسبدَلُ بما يعود بالربح السريع إلى صانعها وبائعها، إلى رأس المال المتوحِّش، المنتعش المسيطر؟
تَخرجُ من عملك وسط المدن المتشابهة، المبقورة البطن بالأوتوسترادات العريضة، تتبعُ الإشاراتِ بدقة، كي تدلّكَ على أحدِ المخارج الدائرية يعجُّ بها المكان، تدلُّك على طريق الشارع، حيث تصطفُّ المباني كالجنود في تأهُّبٍ، في أحدها منزلُك بيتُك... تصلُ مقابل المبنى، فتُزيح حِزام السلامة زنَّر جسدك مدة الطريق، وتُسكتُ القرص المدمج الذي كان يبثُّ في أرجائها المكيَّفة أغنياتٍ صاخبةً لشاكيرا.
تَخرجُ من السيارة، وتُخرج من جيبك سبّحة طويلةً من وسائط التحكّم عن بعد، واحدةٌ لباب المرأب، وثانيةٌ للسيارة تُقفِلها، وثالثةٌ لبوَّابة المبنى. وعند باب منزلك، تُخرِجُ من جيب قميصك بطاقةً ممغنطة، تُدخلها في قفل الباب تفتحه، ثم تعلِّقها في جيبٍ خاصٍّ بجانب الباب، فيمتلئ البيت نوراً، وتصدح الأغنيات الصاخبة ذاتُها.
تستريح قليلاً، ثم تُخرج سبّحة ثانيةً من وسائط التحكُّم عن بعد، معدّة للمنزل هذه المرة، فتُزيح بواحدةٍ الستارة الثقيلة عن الجدار الزجاجي الكبير، وتُشغل حمَّامكَ الذكيَّ بثانية، بحيث يمتلئ المغطسُ بالمياه الساخنة المعطَّرة خلال دقائق، وبثالثةٍ، تجعلُ مطبخك الأكثر ذكاءً يُعد لك القهوة الأميركية خاليةً من أي مذاق، يأخذُكَ لونُها الأسودُ الصافي.
تجلسُ بعد ذلك على كرسيٍّ هزّازٍ، أمام بضعة وسائط للتحكُّم عن بعدٍ مرصوفة على الطاولةِ أمامك، كلُّها سوداء، لا أدري كيف تميِّز الواحدةَ عن الأخرى. تُشغل التلفاز العملاق بواحدة، فيظهرُ أمامك فيلمٌ إباحي هو بثٌ مباشرٌ على شبكات «الوب»، تُثبِتُ على الشاشة صورةً أعجبتك.
تغيِّر الحيز أمامك، متحكِّماً، وعن بعدٍ دائماً، بالجدار الثقيل حامل كتبك والهموم، تُزيحُه، فتظهرُ خلفه غرفةُ نومٍ فسيحةٍ، في وسطها سريرٌ أحمرٌ، وفراشٌ شفافٌ مليء بالمياه الراقصة.
تغيِّرُ المجالَ، تنير السقف المنخفض وفيه أنوارٌ صغيرة متلألئة، تذكّرك بسماءٍ زرقاءٍ وقد عزّت عليك رؤيتُها، في المدينة الملبدة بالدخان وبالغيوم. الباب ذكيٌّ، والحمام ذكيٌّ، والمطبخ ذكيٌّ، والبرنامج الذي أُعِد ليربطَ كلَّ ذلك بجهاز ينظِّمه ويديره هو ذكيٌّ أيضاً، ويقوم بأدوارٍ كان على عقلك الإنساني أن يقوم بها، يأمرُ يديكَ، ورجليك، وأصابعك، وعضلاتك، يحرِّكُها كلَّها، ويسيطر عليها.
إنّ هذا الجهاز، وهو قابعٌ خلف المرايا الملساء في بنيان «الطرز العالمي المعاصر»، أصبحَ نصفَك الآخر، وأصبحتَ، وأنت تزهو في قمَّة الرقي، إنساناً آلياً خارقاً، أو تتوق إلى أن تكون كذلك، فتبدو سعيداً مزهواً في طريقك إلى هذه الصيرورة، إلى خسارتك إنسانيتَكَ.
والجهاز الذي أدار منزلك، يدير نظيرُه منزلَ جارك، وهناك برنامجٌ أكثر ذكاءً يديرُ الشارع بكامله، وآخرُ قد استحدث ليدير المدينة، بأوتوستراداتها العريضة المستحدثة، وبحمَّى البنيان العصري فيها. ينظِّم هذه الحمَّى، تتابعُ الإشاراتِ المرسومةِ باتقانٍ لافتٍ، وإيقاعُ اللوحاتِ الإعلانية الملوَّنَةِ بالأحرف الغليظة، وواجهاتُ العرضِ الزجاجية تراها من نافذة السيارة فقط، إذ لا مكان للتنزّه أمامها.
فالمدينة هذه ببنيانها وطُرقها، لم تُصنع للناس يسيرون على أرجلهم فوق أرصفتها، بل صُنعت ليروها من نوافذ سياراتهم المبرمجة، وفق البرنامج العام الذي يسيِّر المدينة.
من هذا المنظار، تتشابَهُ أقسامٌ هامةٌ من مدنِ اليوم المعاصرة، وتتشابَه حُمَّى البُنيانِ فيها، وتتوحَّد الشرائحُ الاجتماعيَّةُ التي تعيشُ في هذا النمط المكوكب. تتوحَّد، في كونها كائنات نصف آليةٍ، ينحصرُ كلُّ طموحها في أن ترقى دائماً إلى موقعٍ، يعزِّز الآلي المتفوِّق، على كل ما هو إنساني فيها.
إنها تتوحَّد، بهذا التوق المجنون، إلى نزع الصفة الإنسانية عنها، وإن جزئياً. والبنيان المتكرِّر المتشابه، تنظر إليه من نافذة السيارة المسرعة، على الأوتوسترادات العريضة، تراه متنقلاً مثلها. ثم إذ ترى توأمه في المدن الأخرى، تخالُه قد تَبعك في تجوالك.
إن حمّى البنيان هذه، الخالية من أيِّ ارتباطٍ بالمكان، هي كالسيارةِ تماماً، «اللامكانُ» الثاني، فالسيارة هي «اللامكان» الأول بامتياز. إنها، «اللاعمارة» مكرراً، إذ لا أرى ممكناً أن ننقل فعلاً معمارياً حقيقياً، من مكانه إلى مكانٍ آخر، وهو في موقعه، يساهم في صنع المكان، فلا يُنقل منه.
والبنيان «اللامكان»، المتنقِّل كالسيارة، هو النفي المزدوج، للعمارة، وللهوية.
(1) نصّ محاضرة أُلقيت في المؤتمر الثالث لجمعيّة المهندسين المعماريّين السودانيّة في الخرطوم 28 و29/4/2008.
المراجع
■ رفعة الجادرجي: في سببية وبنيوية العمارة.
■ رفعة الجادرجي: حوار في بنيوية الفن والعمارة. .
■ محمد مكية: خواطر السنين.
■ رهيف فياض: العمارة ووعي المكان.
■ رهيف فياض: من العمارة، إلى المدينة.
■ Marc Augé: Non lieu
■ Christian Norberg Shultz: Lart du lieu
■ Antoine Picon: La ville,
territoire des cyborgs
■ Gabriel Dupuy : Lurbanisme des reseaux
Theories et Methodes
■ Larchitecture de la ville: Aldo Rossi