استراتيجية مكافحة الثورات هي مبحث أثير لدى أجهزة الاستخبارات الأميركية، وحظي بالبحث والمعالجة منذ وضع الخطط لـ«مكافحة الشيوعية»، ومكافحة الثورات المسلحة، أو حتى مكافحة الثورات الشعبية. وإذا كانت كلّ أجهزة الاستخبارات الإمبريالية معنية بوضع استراتيجيات مواجهة، فقد كانت الولايات المتحدة متفوّقة في ذلك المجال.لقد اعتمدت واشنطن على أجهزة الاستخبارات لمقاومة الشيوعية من خلال الاعتقال والتعذيب، لكنّها اعتمدت أساليب أخرى توضع تحت عنوان «العمل في جبهة العدو». لذلك وجدناها تفتعل أحزاباً «يسارية متطرفة» للتشويش على سياسات الأحزاب الماركسية، وأحياناً كانت تفتعل أحزاباً «يسارية مهادنة». فالتشويش يجب أن يتحقق من كلّ الجهات، لكي تتشوه الفكرة الشيوعية ولا تعود «جذابة» للفقراء الذين هم قاعدتها الأساس، فشنّت حرباً على الشيوعية وحوّلتها إلى العدوّ الأول. وطوّرت الولايات المتحدة استراتيجية أخرى في البلدان حيث كان اليسار يخوض النضال المسلح ضد النظم العميلة لواشنطن، وخصوصاً في بلدان أميركا اللاتينية. تقوم هذه الاستراتيجية على اختراع «فرق الموت»، وهي مجموعات مسلّحة، ممولة من أجهزة الاستخبارات، تمارس القتل ضد السكان، وخصوصاً العمال والفلاحين، أي قاعدة اليسار الثوري هناك، من أجل تصوير الصراع حرباً أهلية بين مجموعات محليّة.
وإذا كانت قد عملت بعد نهاية الحرب الباردة على «خصخصة الحرب» من خلال تكوين شركات أمنية (ملك الاستخبارات ذاتها) لكي تعمل في مناطق «النزاع» دون الخضوع لقانون، ودون أن تظهر كقوة احتلال، فقد طوّرت فكرة «فرق الموت» بحيث تظهر كقوى معادية لها، لكنّها تخوض الصراع المحلي الذي يخدم استراتيجيتها. في هذا الإطار، حوّلت القوى الأصولية التي أسستها وتحالفت معها ضد الشيوعية في أفغانستان إلى «عدو» يبرِّر سياساتها (التي أصبح اسمها «الحرب على الإرهاب») التي أصبحت ضرورية، مطلع القرن الجديد، من أجل السيطرة على العالم، عبر الحروب والاحتلال. فقد أصبح «الجهاد الإسلامي» هو العدو الذي يقاتل أميركا ويمثّل خطراً عليها. وكان حادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 هو الأساس الذي أنجح الفكرة التي أرادتها، من حيث تأكيد عداء الأصولية الإسلامية (وهنا تنظيم القاعدة) لـ«الغرب المسيحي». لكن أدّت الأصولية دوراً مهماً في تبرير احتلال أفغانستان، هذا الهدف الاستراتيجي الضروري، لكون تنظيم القاعدة يقيم في هذا البلد، لكنّه تحوّل إلى تنظيم «وهمي» يستخدم في سياق تسعير الصراعات الطائفية التي تمهد للسيطرة الأميركية.
لقد أصبح تنظيم القاعدة هو «العدو/ الكنز»، فهو في «عداء» للولايات المتحدة، كما يبدو في الإعلام، وفي بعض الأحداث العسكرية، وهو يغلّب التناقض الذي يحكم «العقل الأصولي» المؤسَّس في الماضي السحيق، على التناقض الراهن مع الاحتلال، ويصعّد من الصراع الطائفي الذي يفكك المجتمعات تهيئة لقبول السيطرة الإمبريالية، أو عجزاً عن مواجهتها.
هذا المنطق العالمي الذي مارسته الإمبريالية الأميركية تحوّل إلى استراتيجية عملية لمواجهة الثورات الشعبية في الأطراف (وفي المراكز). طبعاً، لا نملك نصاً لتلك الاستراتيجية رغم تسرّب بعضها خلال الثورات التي حدثت في الوطن العربي، لكن يمكن تلمسها من خلال الممارسة بعد ثورات ست جرت خلال الأشهر الماضية. فليست الشرطة وحدها قوة المواجهة، رغم أنّ هذه النظم قد أصبحت نظماً بوليسية، بمعنى أنّ قوة أجهزة الأمن قد أصبحت هي الأساس الذي تقوم عليه، وهُمّش الجيش، أو توارى. والشرطة هي قوّة الصدام الأولى التي تقوم بدور القمع العاري بمختلف صنوف الأسلحة، وليس بالهراوات والقنابل المسيّلة للدموع والرصاص المطاطي فقط. لقد ألّفت تلك النظم فرقاً لمكافحة «الإرهاب»، مدربة أحدث تدريب، «أميركي» في الغالب، وامتلكت فرق القناصة المدربة كذلك أحدث تدريب على القتل المباشر (في الرأس أو القلب). ولقد شهدنا تلك الممارسات في مصر وليبيا واليمن، ثم سوريا، وكان يتوضّح من خلال القتل الذي مورس إلى أي مدى وصل تدريب هؤلاء، من حيث الدقة العالية في الإصابة.
لكن إضافة إلى كلّ تلك الأساليب «الرسمية» (أي من خلال أجهزة الدولة) نجد أساليب أخرى.
هناك أولاً، الحديث عن الأصولية، والتخويف من وجودها ودورها، والانطلاق من أنّ السلطة هي في صراع معها، أو أنّها في صراع مع السلطة. هذا المنطق منقول تماماً عن الاستراتيجية الأميركية التي صيغت نهاية القرن العشرين، وأصبحت مبدأ في السياسة الأميركية بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001. بمعنى أنّ الحرب العالمية على الإرهاب تصبح حرباً محلية على الإرهاب. لذلك، تركز الخطاب السلطوي على التخويف من الأصولية، من بن علي في تونس، إلى مبارك في مصر، إلى القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن، ثم الآن في سوريا. ولا شك في أنّ هناك مجموعات أصولية «جهادية» تبلورت خلال العقود الماضية، وتوسعت بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول في 2001، وبعضها حاول الذهاب إلى العراق لقتال المحتلين، لكنّه وُظّف في تصعيد الحرب الطائفية من «المركز» (الأميركي ــ السعودي). ولقد تبيّن بعد الثورة المصرية أنّ تلك المجموعات على ارتباط بجهاز أمن الدولة، وكلّ أجهزة الاستخبارات كانت تفعل ذلك، وبالتالي توظفها في السياق الذي تريد. إنّها قوى عمياء تُوظّف في الصراعات المحلية لصالح قوى تريدها لخدمة مصالحها. وكانت النظم هي الأقدر على ذلك، فعملت على توظيفها في صراعات طائفية.
بمعنى أنّ النظم تضخّم من دور القوى الأصولية، وتُظهرها قوى مهدِّدة للأمن العام، من أجل:
1) تخويف قطاعات متعددة في المجتمع وشلّ نشاطها المعارض. وهنا تخويف الأقليات الدينية والعلمانيين.
2) استخدامها في عمليات تؤكد صحة الخطاب الذي تطرحه النظم من أجل التشويش على الصراع.
لقد لوّح بن علي بخطر الأصولية، وأشار إلى أنّها تريد السلطة. وكذلك فعل حسني مبارك الذي حذّر من وصول الإسلاميين إلى السلطة. وأيضاً اتهم القذافي تنظيم القاعدة بأنّه هو الذي يسيطر على المدن الليبية، وأنّه يسعى إلى تأسيس إمارات إسلامية في ليبيا. وكذلك قال علي عبد الله صالح الذي اتهم القاعدة والحوثيين، وقال بأنّ القاعدة تعمل على إقامة إمارات إسلامية. وهو ما اتبعه النظام في سوريا الذي حذّر من مجموعات سلفية تعمل على إقامة إمارات إسلامية، مبرراً استخدامه للقوة.
ثانياً، يوجد استخدام «البلطجية» الذين باتوا جزءاً من تكوين نظم مافياوية، أو مرتزقة أصبحوا هم «الكتائب الأمنية»، أو «الشبيحة» الذين هم رجالات مافيات تنشط منذ سنوات. وهؤلاء هم أدوات الحزب الحاكم أو المافيات الحاكمة، ولا يخضعون للقانون. ولقد استخدم هؤلاء في تونس ومصر والأردن وسوريا واليمن.
ثالثاً، استخدام فئات اجتماعية تؤلّف قاعدة النظام ضد المتظاهرين. وتلك الفئات هي في ارتباط مصلحي مع السلطة، وتعمل على تحويل الصراع وكأنّه صراع بين فئات مجتمعية، وأنّ ما يجري ليس ثورات ضد النظم. وهو ما استُخدم في مصر واليمن خصوصاً. وفي الأردن وسوريا أيضاً.
رابعاً، استخدام القناصة، في البداية «طرفاً ثالثاً» مبهماً، ثم طرفاً سلطوياً واضحاً. في مصر بدا طرفاً غير واضح يطلق النار على المتظاهرين للتخويف وتفتيت التظاهرات، ولقد تبيّن أنّ القناصة هم فرقة تابعة لجهاز أمن الدولة. وفي ليبيا بدأ القناصة طرفاً مبهماً، ثم أصبح واضحاً أنّه جزء من أدوات السلطة لمواجهة المتظاهرين. وفي اليمن لا يزال الأمر غامضاً أيضاً، رغم وضوح أنّ السلطة هي التي تقوم بذلك. وفي سوريا استُخدم القناصة أولاً طرفاً يخص مجموعات إرهابية، وربما أصولية، لكن حينما توضّح الطابع العسكري للمواجهة ظهر أنّ هؤلاء هم جزء من آليات النظام في مواجهة المتظاهرين.
خامساً، يركّز الخطاب الإعلامي على تصوير ما يجري بأنّه «مؤامرة»، إمبريالية طبعاً، «تقاد من تل أبيب» كما قال علي عبد الله صالح. فالرؤساء مضحّون، ولقد خدموا شعبهم، وضحوا من أجله، والشعب يحبهم، بالتالي ليس من متمرد سوى متآمرين، هم «قلة مندسة»، أو إرهابيون وافدون من الخارج، أو الفلسطينيون. والغريب أنّ هذه «المؤامرة» تطال كلّ النظم، العميلة لأميركا وتلك المحسوبة «ممانعة»، أو حتى مقاومة مثل ليبيا. بمعنى أنّ النظم لا تكتفي بالقمع عبر أجهزتها مباشرة، فتلك طريقة قديمة رغم أنّها لا تزال مستمرة، لكنّها باتت تستخدم الأساليب غير المباشرة مقلدة (أو متدربة عند) زعيمة الإمبريالية، التي كانت تعمل دائماً على تطوير أساليب مقاومة الثورات بمختلف أشكالها. وكما لاحظنا، فإنّها باتت منذ عقود «تخترع» القوى المخربة، وتؤلف «العدو» لكي تسهل مواجهة قوى حقيقية هي عاجزة عن هزيمتها. وكان في أساس ذلك حرف الصراع من صراع طبقي ووطني إلى صراع حضاري، وديني، وإرهابي. والنظم تقلّد ذلك، أو تتدرب عليه من أجل مواجهة شعوبها. السلفية والأصولية موجودتان، ولا شك في أنّهما مدعومتان من السعودية مالياً وأيديولوجياً (من خلال الوهابية). وكان نشر تلك الأيديولوجية سياسة سعودية، منذ عقود، من أجل مواجهة كلّ الفكر الحديث والطموح القومي والاشتراكية. وجرى التجييش ضد الاتحاد السوفياتي، منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين، فتأسست المجموعات «الجهادية» التي باتت تُستخدم ضد كلّ ما هو تحرري وتقدمي وثوري. وإذا كانت أميركا قد استفادت منها في «الحرب على الإرهاب»، فقد أخضعتها النظم لمصالحها وسياساتها، كما ظهر في مصر.
لكن يبقى الأساس هنا هو هالة التخويف المطلوبة من الخطاب الذي يهوّل من هذه القوى، وربما يستخدمها أو يمارس باسمها، فالهدف هو اختراع صيغة للصراع محدَّدة مسبقاً ومسيطر عليها، وتحرف الصراع الحقيقي عن أسسه، وكذلك تعطي المبررات للعنف الشديد.

* كاتب عربي