«صوت» أشهُرنا الأخيرة… تسجيلاتٌ لن تُمحى من الذاكرة

ما هو الصوت؟ سؤالٌ يمكن أن تبدأ محاولة الإجابة عنه في جملة نشرها زياد الرحباني عام 2014: ««قَرَطْني» الصوت... اشتغلت فيه لهلّق 40 سنة، ووَلا مرة قدِرت شفتو». من جهة ثانية، الإنسان لا يستطيع أن «يُغمِض» أذنَيه (بدون الاستعانة بأصابعه أو غيرها)، بخلاف عينيه ومناخيره.
-
ما هو الصوت؟
في ذلك ربما حكمة: اسمع. من الأفضل أن تسمع. عدم السمع فيه خطر على الحياة.
ولهذا السبب تدرس شركات السيارات حالياً، بالتعاون مع مركز الأبحاث الفرنسي الشهير IRCAM، إمكانية تزويد المركبات الكهربائية بـ«صوت»، ينوب عن صوت المحرّك في تلك العادية، لعدة أسباب، أوّلها خطر «صمت» المحرِّك الكهربائي على المارة، لما لصوت السيارة من دور في التنبيه إلى وجودها في الجوار (فإذا ثبّت الإنسان رأسه، سيسمع بكل الاتجاهات، لكنّ نظره يبقى محدوداً) وليست آخرها مسألة المتعة في القيادة، التي يشكل صوت المحرّك جزءاً أساسياً منها (يقال، على سبيل المثال، إن صوت محرّك الـ«فيراري» محميّ بقانون الملكية الفكرية).
باختصار، الإنسان لا يستطيع أن لا يسمع إلا باستخدام حيلة واحدة لا غير، هي أن يصدر صوتاً أقوى من الذي لا يريد أن يسمعه.
-
الإنسان لا يستطيع أن لا يسمع إلا باستخدام حيلة واحدة
تخيلّوا لو حاولنا جميعاً أن نتخلّص من أصوات ما عشناه السنة الماضية، وقرّر كل منّا أن يصدر صوتاً أقوى من تلك التي لم يعد يستطيع سماعها! فالله يتظاهر بالنوم، كي لا يرى ما أصابنا في فلسطين وفي لبنان. لكن من يتظاهر بالنوم يسمع. والله كان سيسمع أن هناك بقعة على هذه الكوكب تصرُخ، إلاّ إذا كنّا متروكين في هذا الوجود لشيطان أخرس… وإلهٍ أطرش.
بالكلام عن الطَرَش، نُشِرَت في العدد الأخير من إحدى المجلات العلمية المرموقة، دراسةٌ عن تجربةٍ تأكَّد بها العلماء من حقيقةٍ يعرفها معظمنا: إن فقدان واحدة من الحواس يؤدّي إلى تعزيز حواس أخرى، مع التركيز على العلاقة بين النظر والسمع بشكل خاص.
-
فقدان النظر، مثلاً، يقوّي حاسة السمع لدى الإنسان
فقدان النظر، مثلاً، يقوّي حاسة السمع لدى الإنسان. والعكس صحيح. والتفسير العلمي الذي خلُصَت إليه الدراسة المذكورة يقول إن غياب النشاط في المنطقة المسؤولة، مثلاً، عن النظر بسبب فقدان تلك الحاسة، يدفع الدماغ إلى تعزيز نشاط المنطقة المسؤولة عن السمع، وهما مختلفتان من حيث الموقع فيه.
بالتالي، إن كانت «صورة» الحدث مزعجة وأردنا التخلّص من تأثيرها السلبي، من خلال أن نشيح النظر عنها (محاكاة العمى)، لن ننجح بقدر ما نتوقّع، لأنّ الإحساس بـ«صوت» هذا الحدث سيتضاعف، معوّضاً بذلك، جزئياً على الأقل، النقص في التأثير الآتي من «صورته».
التأثير، أتى من الصوت أو من الصورة أو من اجتماعهما، ليس نفسه على البشر. بعضنا يتأثّر بالصورة أكثر من الصوت، فيستعيد الأحداث استناداً إلى ذاكرته البصرية. وبعضنا الآخر بالعكس.
بالنسبة لخادمكم، الصورة لا تدوم بقدر الصوت، ويَعلَم، استناداً إلى أحداث قديمة، أن أرشيف «أصوات» 2024 موجود في مكان آمن، وأن حفظه في الذاكرة على قرص الدماغ الصلب سيدوم إلى أن… «تنقطع الكهرباء»!
-
الصورة لا تدوم بقدر الصوت
هذه المقالة تتناول عام 2024 وما تيسّر من العام الجاري، في مقاربةٍ محورُها الصوت، ولكن من «زوايا» مختلفة، مباشرة حيناً وغير مباشرة حيناً آخر، حقيقية حيناً ومجازية حيناً آخر.
هي جولة على «أرشيف» الذاكرة المنظّم بفايلات مُبَوَّبة بما يتناسب مع مضمون أصواتٍ، بعضها عام وبعضها الآخر خاص:
-
جدار الصوت: فيزيائياً، هو صوت الصوت
— جدار الصوت: فيزيائياً، هو صوت الصوت حين يقول: «شيءٌ ما، تَخطَّت سرعتُه سرعتي». مجازياً، هو صوت عنجهية التفوّق التكنولوجي العسكري وصوت السادية المجّانية. بالمناسبة، بدون طاقة (حرارية، كيميائية، نووية، كهربائية…) يمكن للإنسان أن يخرق جدار الصوت في حالة واحدة — ويا للصدفة اللغوية — هي بالسوط، إذ عندما «نضرب» به، يتمَوَّج تدريجياً، فتصِل الموجة إلى رأسه الذي يقوم بـ «لَفطَةٍ» أخيرة، تتخطى عندها سرعة رأس السوط سرعة الصوت، وينجم عن ذلك «ميني انفجار»، لكننا لا نسمع صوت اختراق الجسم الجدار، بسبب حجمه الصغيرة، مقارنةً بطائرة حربية.
— رشقات الرصاص الليلة: صوت الاستيقاظ من النوم تلافياً لنوم أبدي. وصوت المفارقة في تحويل صوت القتل إلى صوت النجاة.
— الطائرات الحربية (عموماً. الإسرائيلية في هذه الحالة): صوت إبليس الآتي من السماوات.
— الغارات: صوت ارتقاء أرواح، من يسمعه يعني أنه ليس من بينهم.
— المسيّرات: صوت الناظر الشرير ذو الذبذبات المدروسة والمقصودة لتلف الأعصاب. بين تلك الدراجة النارية ماركة ”العقّاد“ والمسيّرات، يمكن القول إنّ لدينا ”صورة“ وافية عن موسيقى الجحيم، رغم الاختلاف الجذري في نوايانا تجاه أصحابها: بروليتارية تضامنية في الحالة الأولى (العقّاد)، عدائية إعدامية في الثانية (المسيَّرات).
— أبو ضياء: صوت عيون «روح الروح».
— … و«ريمُه»: صوت صمت «روح الروح» ورفاقها الـ17881 (حتى الآن) من ملائكة غزّة.
— التهديدات: صوت التأهب للبدء بتمارين البيانو. بهذا تحمي «ريمُنا» نفسها، بدون علمها، من أصوات الغارات الآتية.
— أدرعي: الصوت الدليل الذي، إذا كان ينتقل بالوراثة، قد يعطي، أخيراً، تفسيراً علمياً منطقياً لسبب فقدان هتلر أعصابه.
— ترامب وبايدن: الصهيونية النقية بتسجيل «ستيريو».
— نتنياهو: صوت «ألبيريش» في رباعية فاغنر الأوبرالية، «الخاتم». ويصلح تماماً للدور من كل النواحي، بما في ذلك الطبقة (باريتون).
— زيلينسكي: صوت الجاروشة الغبيّة خلال طحنها السلاح، فالسلاح، فالسلاح، فالمزيد اللامتناهي منه.
— حسن نصرالله / نعيم قاسم: صوت الخسارة الكبرى، من ناحية الصوت تحديداً.
— جوزيف عون: صوت رفاقه المغاوير في حصار أدما عام 1990 (راجع مذكرات العميد جورج نادر، أو سمير جعجع).
— أحمد دراوشة: صوت الدقة والوضوح والمهنية الإعلامية المرئية من فلسطين، في العالم العربي.
— الصحافة المكتوبة الفرنسية: صوت اليمين (لو فيغارو، لو باريزيان،…) واليسار (ليبيراسيون)… الصهيوني في الحالتَين.
— كلاريسا وارد: صوت الفَبرَكة، ثم الوقاحة، ثم الوقاحة في الفَبرَكة.
-
زياد الرحباني: صوت الصمت
— زياد الرحباني: صوت الصمت، وهو أبلغ في الموسيقى.
— نورمان فينكلشتاين: صوت الأوادم. لهذا تحديداً نكره هتلر.
— يفغيني كيسين: صوت البيانو الكلاسيكي العاهر المسعور.
— أحمد مدلج: صوت الاطمئنان عن أهل الجنوب وعن زياد.
— سمير الصايغ: صوت الشغف المقطَّر ألف مرة، ليطلع من الروح ويداويها. خلال السنة الماضية شهدنا على تسجيل بعض كتاباته بصوته، فكان للتجربة دورٌ أساسي في تمرير المرحلة نفسياً.
— هند رجب: صوت العجز. عجزها وعجزنا.
— ملحم رياشي: صوت الطيبة في حزبِ وفرة أصوات الحقد.
— مارسيل غانم: صوت... (حقوق الملكية الفكرية لهذا الوصف تعود لأمي، ولا يمكن استخدامه بدون إذنٍ مُسبَق منها. لكنها رحلت).
— محمد فرحات (المراسل): صوت التقاء الشجاعة والذاكرة. هذا دليل على حبّ، عموماً. حبّ الأرض في هذه الحالة.
-
الجنوب: صوت لبنان
— الجنوب: صوت لبنان، صوت الحرية الكرامة.
-
غزّة
— غزّة: صوت قلبي.
— الصمت: صوت إمكانية كل أصوات الوجود، المُمِيتَة منها والُمحْيِيَة.
هذه ليست سوى عيّنة. قد تكون معبّرة، لكنها ليست شاملة. الأمر الوحيد الذي قد يختصر هذا العام صوتياً، لا بد أن يكون من فئة الموسيقى.
هناك عدّة أمثلة، لكن فعلاً لا نعرف لماذا حصل في وجداننا ربطٌ لكل أحداث الأشهر الأخيرة بمقطوعة واحدة: الحركة الرابعة من السمفونية رقم 11 للمؤلف السوفياتي ديمتري شوستاكوفيتش.
أخيراً، في كلامه عن الصوت، يضيف زياد الرحباني إلى الجملة التي أوردناها في مطلع المقال، الوصف التالي: «… كتير بيشبَه الله». كونوا من حزب الصوت.
-
غزّة: صوت قلبي