موسكو | منذ دخول الرئيس فلاديمير بوتين، الكرملين رئيساً لروسيا الاتحادية، أدرك حاجة الحكم الجديد إلى كنيسة قوية تكون قادرة على لعب دور في تصحيح مسار المجتمع اجتماعياً، بعدما سادت فترة من «الانحلال المجتمعي» في العشرية اليلتسينية بعد تسيّد الجريمة لمسرح الأحداث. وعبّر بوتين، الذي يجاهر بنزعته الدينية، وهو الذي لا يفوّت مناسبة دينية إلا ويكون أول الحاضرين، آخرها صورته الشهيرة أثناء مشاركته في يوم الغطاس في كانون الثاني الماضي، عن موقفه هذا بتأكيده أن «صوت الكنيسة القوية يجب أن يكون مسموعاً بقوة في المجتمع الروسي».
ويرى بوتين، في تصريح يعود لعام 2012، خلال لقائه البطريرك كيريل وقادة الطوائف في البلاد، أن الكنيسة لعبت دوراً مهماً في إحياء البلاد وإخراجها من الحالة المضطربة التي عاشتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، موضحاً أن القيم الدينية التي افتقدها المجتمع كانت المخرج الوحيد للدولة وللشعب للخروج من المأزق.
ويضيف أن مواطني روسيا الاتحادية اكتسبوا، بفضل الكنيسة والمنظمات الدينية والجمعيات المسيحية، «الأساس الأخلاقي، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى استقرار المجتمع، وإلى مستقبل الدولة والشعب».
أسهب بوتين في هذا الخطاب، في تحديد الأدوار التي يريد من الكنيسة لعبها في روسيا الجديدة التي «كانت وستبقى دولة علمانية» برأيه، وأوضح أن علمانية الدولة ومصالحها لا تتضارب مع الكنيسة، مضيفاً أن العلاقة بين الدولة والمنظمات الدينية يجب أن تكون بنمط مختلف عما كانت عليه وقائمة على «نظام الشراكة والمساعدة المتبادلة والدعم». وقال: «إننا نحتاج إلى مشاركة يومية نشطة وفعالة للمنظمات الدينية في حياة المجتمع والدولة».
بوتين الذي شدد في العديد من المرات على أهمية المحافظة على التراث الثقافي الخاص بروسيا، وأهمية التربية على أسس قومية، تقاطع مع موقف الكنيسة الذي عبّر عنه البطريرك كيريل حول أهمية تنظيم مراكز دعم الأسرة لضمان استقرار اجتماعي.
ولضمان نجاح هذه العلاقة، عمل بوتين خلال ولاياته الثلاث وفترة رئاسته للوزراء (2008-2012)، على توفير كل ما من شأنه تعزيز دور الكنيسة، فعمد إلى إعادة أملاك الكنيسة، كذلك بادر برفع دعم ميزانية الكنيسة لتصبح نحو 4 مليارات روبل بين العامين 2012 ــ 2014 (لا أرقام للسنوات الثلاث الماضية)، إضافة إلى وضع الخطط لتعزيز الشراكة بين الدولة والكنيسة في موضوع «التعليم والتنوير»، وتعزيز التعليم الديني في المدارس.
يختصر خطاب بوتين في عام 2012 رؤية سيد الكرملين للدور الذي يريده من الكنيسة والقائم على علاقة قوية ومتينة.
في المقابل، تقول المعارضة إن الكنيسة عملت، بفضل دعم بوتين، على تعزيز التعليم الديني ودراسة تاريخ الكنيسة بتعمق في المدارس، وتسعى أيضاً إلى تعزيز نفوذها في الجيش والمستشفيات والسجون.
في هذا الإطار يرى المحلل السياسي، تيمور دويدار، أن الكرملين يؤيد أن تكون الكنيسة قوية لأنها قادرة على لعب دور في تعزيز الثقافة الروحية التي يمكنها معالجة ما يسميه «أمراضاً تنخر المجتمع الروسي»، ما يتقاطع مع خطط سعي الحكومة إلى تعزيز الاستقرار في المجتمع. ويوضح دويدار في حديث إلى «الأخبار» أن سبب تأييد الطرفين بعضهما بعضاً يعود بالأساس إلى غياب الأيديولوجية الفكرية على إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، لذلك «رأى الرئيس بوتين عندما جاء إلى الحكم، وهو الرجل المتدين، أن الكنيسة الأرثوذكسية باستطاعتها القيام بدور لمّ شمل الشعب تحت أسس ومبادئ تكون العائلة عماداً فيها، وبالفعل أخذت الكنيسة على عاتقها لعب هذا الدور».
ويشير إلى أن الكنيسة تقف إلى جانب الكرملين في مواجهة الأفكار التي يحاول الغرب توريدها إلى روسيا، والتي تتعارض مع القيم الاجتماعية الروسية، مثل زواج المثليين، الإجهاض، وخصوصاً أن البلاد تعاني من نقص في عدد المواليد ونقص في فئة الشباب، وهي تلعب أدواراً مهمة في تحصين المجتمع ضد هذه المفاهيم.
بدوره، شدد الكاتب في مجلة «الحياة الدولية»، سيرغي فيلاتوف، على أن علاقة الكرملين بالكنيسة جيدة جداً، وأضاف في حديث إلى «الأخبار» أن «الكنيسة تلعب دوراً كبيراً في روسيا» عازياً السبب إلى ضعف تأثير النقابات، وتحديداً نقابات العمال والأحزاب السياسية الحقيقية، بالمجتمع الروسي، ما سمح بالفرصة للكنيسة على تعزيز نفوذها خارج الأطر السياسية.
حتى المعارضة والمحسوبون عليها يسلمون بالدور الذي تلعبه الكنيسة لخدمة خطط الكرملين، ويرى معارضون أن بوتين يستلهم أفكاره من عصر الإمبراطورية الروسية زمن القياصرة ونتيجة لذلك أصبح والكنيسة أفضل الأصدقاء.
الباحث في مركز «كارنيغي» في موسكو، ألكسندر بونوف، يلفت إلى أن «الكنيسة الأرثوذوكسية عززت مواقفها في روسيا الحديثة».

تقسيم أدوار بين الطرفين؟

هذه العلاقة والأشكال التي تعبّر عنها، تجعل السؤال عن وجود تقسيم أدوار بين الطرفين مستحقاً.
تيمور دويدار يرى أن هناك تصوراً لوجود هذا الأمر، ولكنه بعيد عن الواقع تماماً، ويشرح لـ«الأخبار» أن «الكرملين لا يشرك أحداً في الحكم، وهو من يتخذ القرار في إدارة البلاد. السياسة الداخلية والخارجية تحت سيطرة الكرملين والحكومة. لكن الكنيسة تشارك في الأعمال الإنسانية والروحية». ويضيف دويدار أنه يمكن وصف العلاقة بين الكرملين والكنيسة، «بالحميمية»، وأن هناك «تلاحماً في الرؤى بين الكرملين والكنيسة حول القضايا الإنسانية والاجتماعية، وحتى في القضايا السياسية الخارجية».
بدوره يوافق ألكسندر بونوف، الباحث في مركز «كارنيغي» في موسكو على أن لا تقاسم للأدوار بين الطرفين، ويقول إن «بوتين يستخدم الكنيسة، ولكن في الوقت نفسه من المهم بالنسبة إليه أن لا تنمو سلطة الكنيسة كمؤسسة مستقلة».
ويعتقد بونوف أن الكرملين نجح فى تحقيق أهدافه. وبرأيه، إن الكنيسة تحولت إلى أداة في التعبير عن سياسات الكرملين الخارجية كما يمليها عليها الكرملين، ويعطي مثالاً على ذلك اللقاء التاريخي بين البطريرك كيريل والبابا فرنسيس في عام 2016 الذي رأى فيه محاولة من بوتين لكسر الصورة عن العزلة الدولية التي تتعرض لها بلاده دولياً.
من جهته، رأى سيرغي فيلاتوف، أن لا تقسيم للأدوار، فكل «جهة تقوم بمهمتها الخاصة. الكرملين يلعب الدور السياسي، والكنيسة هي للأمور الدينية الروحية»، ولكن فعلياً «البطريرك كيريل يدعم عملياً سياسات بوتين»، وتحديداً في القضايا التي تتعلق بمصالح روسيا الخارجية، إن في أوكرانيا أو سوريا أو في الصراع مع الولايات المتحدة، وحتى في مواجهة المعارضين للكرملين في الداخل.
بوتين الذي يعمل أيضاً على تعزيز الكنيسة الأرثوذوكسية في العالم، لما فيه من مصلحة روسية بالنهاية، عمد إلى حضور مجلس أساقفة الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية في كاتدرائية المسيح المخلص في موسكو بحضور مئات الأساقفة من جميع أنحاء العالم.
ووفقاً لرئيس مركز دراسة الدين والمجتمع في «أكاديمية العلوم الروسية»، الباحث رومان لوكنين، فإن «آخر مرة تدخل فيها أحد في اجتماعات الكنيسة تعود إلى زمن الأباطرة البيزنطيين».

الكنيسة وانتخابات 2018

مع استمرار دعوات المعارضة «الليبرالية» إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية والتركيز الغربي على أن نسبة المقترعين ستكون دون الـ50%، جاء موقف البطريرك كيريل أخيراً بدعوة الناخبين لأوسع مشاركة في التصويت للتقاطع مع جهود الكرملين لتأمين مشاركة واسعة لتوجيه رسالة واضحة بأن شرعية الكرملين مستمدة من دعم المواطنين الروس.
الباحث في مركز «كارنيغي» في موسكو، ألكسندر بونوف، يؤكد أن «الكنيسة ملزمة بدعم سياسة فلاديمير بوتين تأييداً تاماً». ويرى بونوف أن تعزيز دور الكنيسة الأرثوذوكسية يهدف على نحو أساسي إلى جذب المتقاعدين والطبقات غير المتعلمة من السكان لدعم الكرملين في مقابل الليبراليين الذين يعارضون بوتين.
من جهته، يرى المحلل تيمور دويدار أن «الكنيسة ستتخذ موقفاً محايداً»، وهو ما عبّر عنه البطريرك كيريل بعدم إعلانه دعم أيّ من المرشحين، على الرغم من تأييده الواضح لبوتين والعلاقة الوطيدة التي تربطهم. ويضيف دويدار: «لن نرى أي دور للكنيسة في هذه الانتخابات. لأن الذين ينصتون إلى الكنيسة نسبتهم ليست بكبيرة». ويوضح: «صحيح أن الكثير من الشعب الروسي توجه نحو الكنيسة والدين، وليس التدين، إلا أن إحصائية الذين يزورون الكنيسة كل يوم أحد ويعتبرون أنفسهم متدينين لا يتجاوزون بالحد الأقصى 4%»، وبالتالي إن تأثير الكنيسة للحشد للانتخابات ليس بالكبير والمؤثر كثيراً».