عن أحد الحواسيب في جامعة إدنبرة قوله: "أحبّ قهوتي مثلما أحبّ الحرب... باردة". يقول ذلك من تلقاء نفسه. لا ينقله عن أحد. يجترحه بناء على تحليل الملايين من الجمل، وبناء على طريقة تنكيت برمجها الباحثون هناك. وهو، وإن لم يُفلح في سرقة البسمة منك في هذه المرّة، لكنّه بمعدّل ١٦٪ من الحالات، يجده الناس خفيف الدمّ. وإذا قارنت ذلك مع النكات التي تصدر من أشخاص بلحم ودمّ حقيقيّين، تجد أنّ نسبة ما يضحك منها لا تتعدّى ٣٣٪.
إذاً، هل نستنتج أنّنا وصلنا إلى عصر تتمتع فيه الآلة بالظرافة بما يعادل نصف ظرافة الإنسان؟ الجواب: "كلّا". ولذلك سببان: الأوّل أنّه لو كان الجواب "نعم"، فالموضوع ينتهي هنا. والثاني هو ما يحاول بحثه باقي التحقيق.

ليست كل النكات سواسية

إذا نظرنا إلى كلّ النكات التي ينتجها هذا البرنامج، نجدها على الشكل نفسه: "أحبّ كذا مثلما أحبّ كذا…"، وهي صيغة شهيرة من النكات، تعتمد على المفاجأة في الربط بين أمرين، ويستملحها الناطقون بالإنكليزية خاصّة. ولذلك، فإنّ برمجة الحاسوب لإطلاق نكات كهذه لا يجعله بنصف قدرة البشر الفكاهية بشكل عام، بل بنصف قدرتهم على صياغة نكات بهذه الكيفيّة
حصراً.
في المقابل، لو نقّبت في "غوغل" اليوم بحثاً عن طرائف عربيّة مثلاً، لن تجد صفّاً من النكات التي تفترق في جزء من الجملة فقط، بل ستجد صيغاً عشوائية مثل قول ابن الرّومي الجارح لابن حرب: «لك أنفٌ يا بن حربٍ... أنِفت منه الأنوف// أنت في القُدسِ تصلي... وهو في البيت يطوف». وهذا ما ليس نمطاً يسهل تلقينه للحاسوب كي يقلّده.
وإذا محّصنا أكثر في المشكلة، نجد أنّ التحدّي الحقيقي في أن نصل الى مرحلة يقول فيها الحاسوب نكاتاً على شاكلتنا هو أن نصل نحن البشر إلى تعريف واضح للنكتة، وإلّا فماذا سننقل للآلة؟
هذا بحث فلسفي أصلاً، تعاقبت عليه النظريّات. وخلاصته، بحسب "الموسوعة العربية"، أنّ النكات تقسّم إلى ثلاث مجموعات أساسيّة. فهي إمّا تُفسّر بنظريّة التنافر، أي التفاوت بين ما يتوقّعه الإنسان وما يجده.

هل نستنتج أنّنا وصلنا إلى عصر تتمتع فيه الآلة بالظرافة بما يعادل نصف ظرافة الإنسان؟
ويُعطى على ذلك مثال: «سمح بعض حراس السجن لأحد المحكومين بأن يشاركهم لعب الورق، وعندما اكتشفوا غشّه في اللعب طردوه خارج السجن». وإمّا تعتمد على نظرية الفوقية، أي الشعور بالبهجة للإحساس بتفاهة موضوع معيّن أو نقص في شخص ما. وإمّا تُعرّف على أنّها نتيجة تخفيف الكبت أو التوتّر وإخراج الطاقة العصبيّة.

الفكاهة الحاسوبية

بالنظر إلى أنواع الفكاهة تلك، نجد أنّ أقرب ما يمكن تلقينه للحاسوب هو إنشاء نكات تبنى على التنافر بين المفاهيم، وهو ما يتضمّن مثلاً نكاتاً تجري مقارنات، على صيغة: "أحبّ الأفكار كما أحبّ المياه... ضحلة" (أي غير عميقة). وكذلك تمكن برمجته لإطلاق نكات تلعب على استبدال كلمات بأخرى تشبهها ولكن تحمل معنى آخر. ومثال على ذلك هو من جامعة "ترينتو" الإيطالية حيث أنتج الباحثون برنامجاً يستبدل اختصارات لمنظمّات معروفة بتعريفات أخرى، كالقول بأنّ اختصار "FBI" يرمز إلى Fantastic Bureau of Intimidation (أي مكتب الترهيب الرائع) بدلاً من Federal Bureau of Investigation (أي مكتب التحقيقات الفيدرالي).
وصفات أخرى لإنتاج الملايين من النكات آليّاً أنتجها باحثون من جامعة "أبردين" في اسكتلندا، وأطلقوا ما أسموه "Joking Computer" وهو ما يمكن تجربته اليوم على الإنترنت. وهذه الوصفات أيضاً تعتمد على إيجاد أصوات متشابهة أو قواسم مشتركة بين شيئين متباعدين كلّياً.

لماذا هذا البحث؟

بطبيعة الحال، لم يكن جهد العاملين على برامج وروبوتات تنتج الطريف من الكلام، أو ما يسمّى اليوم بتقنيات "الفكاهة الحاسوبية" (Computational Humor)، لمجرّد إشباع حاجتهم إلى المرح اللامتناهي. على الأقلّ، هذا ما تقوله الاستثمارات الكبيرة بملايين الدولارات في هذه الأبحاث.
إحدى أهمّ المجالات التي يفيد فيها إنتاج النكات آليّاً هو في تحسين التواصل بين الإنسان وكلّ تلك الآلات من حوله. قد يلحظ بعض مستخدمي الآيفون مثلاً أنّ المساعد الشخصي "Siri" فيه بعض من الظرافة، خصوصاً عندما تسأله عن حاله وعن مسائل الكون وغير ذلك. وهذا ما يكسر الحاجز بين الإنسان وهاتفه ويجعله يتعلّق به أكثر، حتى أنّه يمكنك أن تسأله أن يخبرك طرفة، وسيقوم بالواجب على أكمل وجه. أغلب الظنّ هنا أنّ هذه نكات ابتدعها مطوّروه لأنّها تتكرّر كثيراً، وبالتالي فإنّ إنتاج نكات مضحكة بشكل آليّ يفتح باباً واسعاً لمرح لا متناهٍ مع هذه البرامج.

مجال آخر هو مساعدة الأطفال الذين يعانون من مشاكل في التواصل وفي تعلّم اللغة. إذ وجد الباحثون أنّ إطلاعهم على جمل فيها لعب على المفردات وحسّ فكاهي، يساعد في تخطّي تلك المشاكل بوقت أسرع. وبالطبع تمكن ملاحظة تطبيقات ذلك في معالجة مشاكل الاكتئاب مثلاً. وفي الإطار نفسه، يرى الكثيرون أنّ جملاً طريفة ينتجها الحاسوب قد تساعد الأشخاص في حفظ كلمات السرّ. إذ يمكن أن تكون كلمة السرّ عبارة عن تجميع أوّل حرفين من جمل كهذه، أو غير ذلك.

المساعد الشخصي "Siri" فيه بعض من الظرافة عندما تسأله عن مسائل الكون

وإذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى، نجد تطبيقات كثيرة للبرامج التي، بدلاً من إنتاج النكات، تعمل على تصنيف الكلام بين ما هو مضحك وهزلي وما هو ليس كذلك. وهذا ما يُعمل عليه لمساعدة الناطقين بغير لغتهم على تفادي مواضع الحرج عندما يكتبون أو يقولون جملاً يمكن تصنيفها بلغة أهل البلد على أنّها مضحكة.
فعلى سبيل المثال، كان صديقنا الإيراني يخلط بين "كيف الحال" و"أهلاً وسهلاً"، وكلّما دخل على لحّام مغربيّ يعاجله بالثانية، فيعاجل اللّحام الحاضرين بضحكته الخبيثة. ومثل ذلك يحصل كثيراً في رسائل البريد الإلكتروني، ولذلك يُعمل حالياً على برامج تساعد من يكتب هذه الرسائل بلغة أجنبية على تفادي الحرج غير المقصود. وهذا بحث أصعب من إنتاج النكات لأنّه يلزم أن يتعرّف إلى ما هو هزلي من دون أن يكون محدوداً بصيغة معيّنة.

خيمتنا الأخيرة

في النهاية، يرى بعض العلماء أنّ الفكاهة قد تكون الحاجز الأخير الذي على الآلة أن تتجاوزه قبل أن تصبح بمستوى ذكاء الإنسان. فحتّى لو وصلنا إلى مرحلة لا نفرّق فيها بين كلام يقوله الحاسوب وآخر يقوله الإنسان، لن يكون صعباً أن نفرّق بين نكات يقولها كلّ منهما. ومسألة اختراع النكات هي مسألة إبداعية للإنسان بينما هي حسابية للآلة، وحتّى الآن نستطيع أن نقول بثقة أنّه شتّان بين الاثنين... أقلّه حتّى موعد آخر.




أين حواسيب العرب؟

لا يبدو أنّ هناك عملاً جدّياً على مشاريع تستهدف اللّغة العربية في هذا المجال. وكما يمكن للقارئ أن يلاحظ، فالنكات المترجمة التي وردت في هذا النصّ ليست على قدر عالٍ من الفكاهة عندما تُقرأ بالعربيّة، فالطرفة، في أغلب الأحيان، ذات طابع ثقافي محلّي وليس أممياً. ولذلك لن ننجح إن اعتمدنا على أخذ النكات التي ينتجها الحاسوب بالإنكليزية وترجمناها للعربية للاستفادة منها في المجالات المختلفة. ولذلك هناك حاجة لمحاولات عملية في هذا الإطار. فالتواصل بين الناطقين بالعربيّة وآلاتهم أمر أساسي، وتحسينه لا بدّ منه، والفكاهة في جوهر ذلك التحسين.