عند أوّل ذكر لمصطلح "صناعة الموت" في "عالمنا"، تتبادر إلى الذهن مشاهد الموت اليوميّ من أقصاه إلى أقصاه، باستخدام أحدث تكنولوجيات الحرب الجديدة. فقد نجحت البشريّة في التفنّن في "كيفيّة الموت": بالرصاص والقذائف والصواريخ التي تتطوّر يوميّاً. ونشأ سباق تسلّح متسارع دافعه حبّ البقاء. فهذا الأمل في إطالة الحياة أدّى إلى كيفيّات جديدة لموت الآخرين.
لكن لـ "صناعة الموت" معنى آخر بعيداً عن أسباب الموت، وقد تصحّ تسميتها أيضاً بـ"صناعة ما بعد الموت": وهي تبدأ من لحظة الوفاة، وقد لا تنتهي في لحظة الدفن. الحديث هنا عن تحضير المآتم ومراسم الدفن إلى تقديم العزاء.
هذه الصناعة هي من الأشياء التي لم تتغيّر كثيراً منذ مئات السنين. حتّى الثورة الرقمية في العقود الأخيرة لم تنعكس تطوّراً ملحوظاً فيها. وهو أمرٌ مستغرب أمام حجم الأموال التي تُنفق في هذا القطاع، إذ تُقدّر حركة "سوق" المآتم الأميركي مثلاً بأكثر من عشرين مليار دولار في السنة، تنتج من حوالى ٢.٥ مليون مأتم.
أسباب تأخّر التكنولوجيا
لا شكّ في أنّ في الأمر أوّلاً حاجزاً نفسياً يحول دون إدخال التكنولوجيا إلى هذه الصناعة. فالدافع لإنتاج تقنيات جديدة هو اقتصاديٌّ بالدرجة الأولى.

تُقدّر حركة "سوق" المآتم الأميركي مثلاً بأكثر من عشرين مليار دولار في السنة، تنتج من حوالى ٢.٥ مليون مأتم
وفي الكثير من الأعراف يُعدّ التفكير اقتصاديّاً في هذا الموضوع من المحظورات، أو تنافياً مع احترام قيمة الموت. وهذا مثلاً ما يستغلّه العديد من الفاعلين في قطاع المآتم لرفع أسعارهم بشكل غير مبرّر، خصوصاً أنّ قرارات الدفع في حالات الأسى والحزن لا تكون بالضرورة ناتجةً من مقارنات بين التجّار كما هو الوضع في الحالات العاديّة. وكذلك فإنّ إدخال التقنيّة بشكل كبير إلى هذا القطاع يعدّه البعض تكديراً لحالة الحزن والسكون التي تعتري تلك اللحظات، التي يطغى عليها التأمّل والتفكّر في موت يسلبُ كل بهارج الحياة، ومن ضمنها التكنولوجيا.
مع الوقت، بات دافع آخر يخفّف من هذا المحظور، ويدفع نحو مزيد من إدخال التقنية في صناعة الموت، وهو: "حبّ الخلود". فقد عزّزت الكاميرات الرقمية والهواتف الذكيّة مع منصّات عرض الصور كـ"Instagram" و"Flickr" شعوراً لدى الناس أنّ ذكرهم لن ينقطع بسهولة بعد وفاتهم. وهو كان دافعاً لدى العديد من الشركات إلى الاستثمار في مشاريع تقنية جديدة، عمادها هو: "كيف تجعل ذكرك خالداً للأجيال القادمة؟".

أرشفة المقابر بـ "الدرونز"

من المقابر نبدأ، ففي الكثير منها ليس هناك أرشيف يحدّد مكان دفن كل شخص، بل يجرى الاعتماد على ذاكرة العائلة في معرفة مكان القبر. ومن يأتي لزيارة قبر شخص ما للمرّة الأولى قد يضطرّ لقراءة كلّ شواهد القبور بحثاً عن هدفه. محاولات حلّ هذه المشكلة بدأت مع أرشفة ورقيّة للمقابر، كناية عن خريطة لأماكن القبور مع أسماء المدفونين فيها.
هذا الأرشيف الورقي يتّسق مع الذاكرة القصيرة عن الموتى: فأكثر الناس في عصرنا يهتمّون بموتاهم الذين عاصروهم، أو الذين سمعوا عنهم ممّن عاشروهم. لكن مع تقنيات العصر الحالي، يُمكن لمن يأتي بعد مئات السنين أن يتعرّف إلى حياة أجداد أجداده بسهولة ويُسر من خلال أثرهم الرقمي وصورهم وكتاباتهم، وقد يثير ذلك اهتمامه بهم. ولذلك، ففي السنوات الأخيرة، بدأت مشاريع جديدة لأرشفة رقمية للمقابر، نتجت منها برمجيّات تُسمّى بـ "Cemetery Management Software". وبدأت مشاريع أخرى لتوفير خرائط رقميّة لتلك المقابر. وقد ساعدت في ذلك طائرات "الدرونز" التي تستخدمها شركة "PlotBox" مثلاً في مسح المقابر، وكذلك في تحديد الأماكن الفارغة للدفن. وهذا تمهيداً لإطلاق نسخة جديدة من موقع البحث "DiscoverEverAfter" الذي سيوفّر منصّة شبيهة بـ "Google Maps"، ولكن للبحث عن أماكن دفن الأشخاص.

قبور تتحدّث إليك

لا تتوقّف المشاريع التقنية عند الوصول إلى مكان القبر، بل تتعدّاه إلى القبر نفسه ليصبح متّسقاً مع العصر. بالطبع، حديثنا هنا ليس عن شاشات مقاومة لعوارض الطبيعة بدل شواهد القبور، فهذا شيء غير مطروح حاليّاً على نطاق واسع، بل عن تقنيات يمكن تطبيقها في الحال. مثال على ذلك رقاقة إلكترونية على شكل قطعة نقود معدنية تُزرع في القبر، اسمها "RosettaStone". تعمل هذه الرقاقة بتقنية "NFC"، فعند تقريب الهاتف إليها، تنتقل المعلومات، ويمكن عبر الهاتف حينها قراءة نبذة عن تاريخ الشخص ورؤية صورته وحفظ مكان دفنه.

برامج لتخطيط المآتم

ومع هذا الاتجاه نحو اعتماد التقنية، بدأت شركات تنظيم المآتم تتخصّص في حلول تكنولوجية جديدة في هذا الإطار. أوّل الغيث برامج للهواتف كي تسهّل اختيار كلّ ما يتعلّق بمراسم الدفن. برنامج "Memory Maker" من "Tobin Brothers" مثلاً يُساعد في حجز مكان العزاء والسيّارة لنقل الميّت، وشراء الكفن والنعش من ضمن خيارات واسعة، وكذلك تنسيق الأزهار واختيار الطعام للمعزّين يتمّ من خلال البرنامج. قد يكون هذا تسليعاً لفكرة العزاء بنظر الكثيرين، لكنّه يسهّل الأمر لمن يُحرجه السؤال أو المقارنة بين الأسعار في حال التواصل المباشر مع التاجر.
وللّذين لا يستطيعون حضور المأتم مباشرة، يمكنُ للعائلة أن تخطّط لبثّ مباشر عبر الإنترنت، مُتاح للعموم أو لأشخاص محدّدين، وهذا ما تقدّمه شركة "Funeral Resources" في الولايات المتّحدة. وإضافة إلى ذلك، توفّر شركة أخرى، هي "Funeral Tech"، خدمات مثل إنشاء مواقع إلكترونية لتخليد ذكرى الشخص أو تقديم العزاء، وكذلك فيديوهات تروي قصّته.

آثار حميدة للتقنية


يتوقّع الكثيرون أن يكون لإدخال التقنية إلى هذا القطاع فوائد جمّة. من الناحية الأنثروبولوجية، قد تتوسّع ذاكرتنا القصيرة عن أجدادنا لتعود بالزمن مئات السنين إلى الوراء، وهذا ما ليس موجوداً الآن، وقد ينعكس إيجابيّاً في مجال الأبحاث التي تُعنى بدراسة تطوّر الإنسان وحتّى هجرة السلالات حول العالم.

للّذين لا يستطيعون حضور المأتم يمكنُ للعائلة أن تخطّط لبثّ مباشر عبر الإنترنت، مُتاح للعموم أو لأشخاص محدّدين
من الناحية الاقتصادية، سيؤدّي ذلك إلى رواج نوع جديد من السياحة، يزور فيه الأشخاص مناطق أخرى من العالم دُفن فيها أجدادهم، وهو ما يُمكن تسميته بـ "سياحة الأنساب" أو "السياحة النَسَبيّة". الأثر الآخر بيئي، فمن صنّع الرقاقة الإلكترونية، يروّجها على أنّها بديلٌ صغير لشاهد القبر، يوفّر معلومات أكثر بكثير من الحجر العادي الذي يُكتب عليه الاسم فقط وتاريخ الوفاة، وهو بعُشر الحجم وعُشر الكلفة، وبالتالي يعني استهلاك كمّية أقلّ من الغرانيت أو الرّخام.

حياة أخرى أونلاين

ومع إمضاء الأشخاص ساعات عدّة أونلاين، باتت هذه الحياة الرقمية أيضاً شيئاً يطاله الموت، ولذلك تتعامل شبكات التواصل الاجتماعي مثل فايسبوك مع الموت كحالة يجب أن تنعكس من الواقع إلى الافتراض. إذ يُمكن لعائلة الشخص تقديم طلب موثّق للموقع، يُسمّى "Memorialization Request"، تصبح عندها صفحته للذكرى: لا يمكن الولوج إليها، لكن تبقى معروضة لأصدقائه ليكتبوا ما يريدون على حائطه. ومؤخّراً بات يمكن للجميع تحديد شخص يُسمّى "Legacy Contact"، يرث الحساب بعدهم، وذلك لمساعدة العائلات على تحميل صور ومنشورات أحبّائهم، وحتى قبول طلبات الصداقة، بعد الوفاة.
وإضافة إلى فايسبوك، هناك شركات مثل "Best Bequest" تساعد في حفظ الملفّات والوثائق والسندات المهمّة في مكان آمن على الإنترنت كي يوفّرها الشخص لعائلته في حالة الموت.

تحدّيات الخلود

في النهاية، يبدو أنّ التوق نحو الخلود بدأ يدفع بالتكنولوجيا لتشقّ طريقها نحو ما بعد الموت، خارقة حواجز المحظور. لكن، مع ذلك، لا تبدو هذه الطريق سهلة، إذ الهدف هو تخليد المعلومة لمئات السنين الآتية، وهو ما دونه عقبات مثل تغيّر تكنولوجيا التخزين مع الوقت، وهو مثلاً ما بدأنا نواجهه حاليّاً مع انقراض القرص المرن (Floppy Disk)، وصعوبة نقل كل المعلومات الموجودة عليه إلى ما هو أحدث. وكذلك فإنّ الرقائق الإلكترونية التي تعمل مع هواتف اليوم قد لا تنفع مع ما هو قادم. ثمّ أنّ الشركات المشرفة على التقنية هي أيضاً عرضة للموت، وأعمارها قصيرة بالمجمل، فماذا يضمن بقاء المعلومات مع موت الشركات؟ هذه التعقيدات وغيرها هي التي تُبقي هذه المشكلة قائمة. والبحث عن حلّ عابر للشركات والأزمنة والتكنولوجيات هو تحدٍّ كبير. لكن، من كان الخلودُ مرامه، تهون الخطوب أمامه.