لم ينس أحد حتى اليوم الأحداث التي سبقت مباراة إنكلترا وروسيا في بطولة أوروبا للمنتخبات عام 2016. المباراة التي احتضنها ملعب الفيلودروم في مدينة مارسيليا الفرنسية. بقت المواجهات بين المشجعين الإنكليز والروس لأكثر من يومين. المدينة الجنوبية تحوّلت ساحة شغب بين الـ«هوليغانز» الإنكليز والروس. سقط حينها قتلى وجرحى. توعّد الروس الإنكليز بأنهم سيواجهونهم في كأس العالم. الهوليغانز ــ من حيث المعنى ــ هم المشاكسون، أو أصحاب السلوك العنيف، وهم بلا شك سيتأثرون بالخلافات الروسية ـــ البريطانيّة. ستكون مواجهتهم متوقعة في المدن الروسيّة، الصيف المقبل. هذا «التحليل» كان قبل الحادثة.
التّطورات والأَحداث

ستقاطع بريطانيا «سياسيّاً» كأس العالم 2018 المقررة في روسيا. حمّلت موسكو المسؤوليّة عن تسميم العميل الروسي السابق واللاجئ إلى بريطانيا سيرغي سكريبال وابنته بغاز الأعصاب غرب إنكلترا. وأعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أنّ بلادها ستطرد 23 دبلوماسيّاً روسيّاً وستوقف العلاقات الدبلوماسية العالية المستوى. وهو القرار الذي قلّلت روسيا من قيمته، معتبرةً أنه لن يؤثر على بطولة كأس العالم مشاركة وزراء أو مسؤولين إنكليز في حفل الافتتاح أو الختام، على اعتبار أن «الأمر لن يكون له أي تأثير على جودة البطولة». وفي وقت أكّدت روسيا عدم مسؤوليتها عن حادثة التسميم، أعلنت دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي دعمها للندن في هذه القضيّة.
في الواقع، أعادت قضيّة الجاسوس سكريبال الهارب من روسيا إلى بريطانيا، قصّة الجاسوس الآخر ألكسندر ليتفينينكو ــ كان يحمل الجنسية البريطانيّة ــ الذي وجد مقتولاً بعد تسميمه في عام 2006 بمادّة «البولونيوم 210». آنذاك وجهّت أصابع الاتهام حينها إلى روسيا ولكن كأس العالم لم يكن في روسيا. كما أنّ نتائج التحقيق في تلك القضيّة والتي عُرضت في عام 2016 أشارت إلى أنّ روسيا هي المسؤولة عن عمليّة الاغتيال، رغم نفي الأخيرة لهذه المزاعم باستمرار. يضاف إلى هاتين الحالتين، مقتل شخصيات روسيّة في بريطانيا كرجل الأعمال الكسندر بيريبيليتشني والمليادير السابق بوريس بيرزوفسكي. حينها شنّ الغرب حملة كبيرة ضد روسيا متهماً إياها باغتيال المعارضين وانتهاك أراضي الدول الأخرى. وهو بالضبط ما تحدّثت عنه قبل أيام قليلة المتحدّثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، معتبرةً أن الغرب سيستعمل هذه القضية الجديدة لشنّ حرب دعائيّة ضد روسيا. وخلال المرحلة الماضية لعب الصحافي في الغارديان لوك هاردينغ دوراً مهماً في التصويب على روسيا، واتهامها بتنفيذ اغتيالات على الأراضي البريطانية. واعتبرت جهات في موسكو حينها أنّ ردّة فعل هاردنيغ جاءت بسبب طرده من روسيا حيث عمل هناك بين 2007 و2011.

لكن، ما علاقة هذا بكرة القدم؟
إن كنتم من متابعي كرة القدم، فلا بد من أنكم تعرفون هذا الاسم جيداً: رومان أبراموفيتش.


الأزمة المتجدّدة وضعت رجال الأعمال الروس الموجودين في بريطانيا «تحت المجهر»، خاصّةً أولئك الذين تربطهم علاقة مميّزة مع الكرملين. على رأس هؤلاء يأتي مالك نادي تشلسي الإنكليزي رومان أبراموفيتش. تشلسي الذي واجه برشلونة من يومين، والجميع يعرف من برشلونة في كرة القدم آخر عشر سنوات. تشلسي، الذي صار فريقاً كبيراً، يحسب له ألف حساب. لكن أبراموفيتش، بنى إمبراطوريته المالية من تجارة النفط. الرجل القويّ والمقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رغم ما قيل أخيراً في وسائل الإعلام، عن أنّ العلاقة بين الرجلين شهدت بعض الفتور. وفي حال توتّر هذه العلاقات أكثر بين الدولتين واتخذت منحىً تصعيدياً، كمقاطعة المنتخب الإنكليزي لفعاليات كأس العالم، بحسب ما نُقِلَ عن وزير الخارجية بوريس جونسون، فإنّ التضييق سيبدأ على أبراموفيتش وغيره من رجال الأعمال الروس الموجودين في بريطانيا، من بوابة الأعمال والرياضة على حدّ سواء. وسيؤثر ذلك على تشلسي، وتالياً على «سمعة» الدوري الإنكليزي نفسه. أبراموفيتش ليس رجلاً عادياً، إنه الرجل الذي يقيل المدربين، و«يزدري» بطريقة أو بأخرى، الفرق الأخرى. في أية حال، وعلى مدى السنوات لم يَسلَم مالك النادي الّلندي من أسهم الانتقاد التي توجَّه ضِّده في بريطانيا، خاصَّة من الصحافة التي تَعتَبِر أنّ أبراموفيتش جَمَعَ ثَروته من «أعمال غير مشروعة». ويعتبر الكاتب في صحيفة التايمز البريطانية، ماثيو سيد، رأس الحربة في الهجوم على مالك نادي تشلسي وثروته في بريطانيا. اعتبر في إحدى مقالاته عام 2015 أنّ أبراموفيتش يتّخذ من تشيلسي غطاءً لأعمال غير مَشروعة ولتنظيف أمواله. وبعد تصريح تيريزا ماي الأخير، جدّد ماثيو سيد هجومه على أبراموفيتش في مقال بصحيفة التايمز أيضاً، معتبراً أن «فضيحة الجاسوس الروسي» كما وُصِفت، يمكن أن تؤدّي إلى رحيل أبراموفيتش عن تشلسي، كما طالب بفرض قانون في بريطانيا شبيه بذلك الذي فُرِض في الولايات المتحدة الأميركية، والقاضي بوضع اليد على الأصول الماليّة على رجال الأعمال الروسي الذين تسميهم الحكومة. ويفترض الصحافي أنّ أبراموفيتش هو واحد منهم، ولا يجب السماح له بأخذ بريطانيا كملاذ مالي آمن للتغطية على ممارساته المالية في روسيا. ولا تكفّ الصحافة البريطانية أخيراً، وخاصّة التايمز والغارديان، بمطالبة الحكومة البريطانيّة باتخاذ إجراءات صارمة تجاه روسياً، وخاصة رجال الأعمال الروسي النافذين المقيمين على الأراضي الإنكليزيّة، حتى أن البعض يذهب أبعد من ذلك ويعتبر أن الحكومة البريطانيّة لم تنجح حتى الآن بإدارة الأزمة مع روسيا لصالحها.
في الجهة المقابلة فإن العقوبات ستطال أيضاً بريطانيا على المستوى الرياضي لرفضها المشاركة في البطولة، وهي التي تقع ضمن المجموعة السابعة الى جانب بلجيكا وبنما وتونس، حيث أنه من المقرر أن تبدأ مشوارها في 18 حزيران/يونيو على ملعب «فولغوغراد ارينا» في فولغوغراد الروسيّة. وفي حال قرر الاتحاد الإنكليزي لكرة القدم عدم مشاركة المنتخب في مباريات كأس العالم، فإنّ عقوبات كبيرة ستطال «منتخب الأسود الثلاثة» وأولها عدم السماح له بالمشاركة في كأس العالم 2022 المقرر في قطر (وهذه مفارقة أخرى). كما سيتم تغريم المنتخب بحوالى 200 ألف يورو على أن يتضاعف في حال عدم تسديده. وفي وقت يبدو سيناريو انسحاب المنتخب الإنكليزي من فعاليات كأس العالم أمراً مستبعداً، وهذا ما ألمح إليه مدرب الإنكليز غاريث ساوثغيت الذي اعتبر أنه يجب إبعاد اللاعبين عن الأمور «غير الرياضيّة»، لن تكون الأمور سهلة على الإنكليز، وخاصة الجماهير التي ستحضر إلى روسيا. لن تكون المواجهة لطيفة على الإطلاق.


فلاش باك

الحروب الكبرى: من نابوليون إلى كرة القدم



الحَرب الروسيّة الإنكليزيّة تعود إلى القرن الثامن عشر وتحديداً إلى أعوام «1807 - 1812»، حينها كانت القارّة العجوز تعيش ما عُرف بالحروب النابوليونيّة، عندما كانت فرنسا إمبراطوريّة كبيرة في أوروبا، وعَمِلت مع روسيا حينها على حصار بريطانيا، فقام الروس بإغلاق التجارة البحريّة مع بريطانيا العظمى حينها، للحدّ من قدرة الإنكليز التجاريّة والاقتصاديّة وإغلاق أسواقِها الخارجيّة. في تلك المرحلة أيضاً وَقَفت روسيا إلى جانب الدنمارك بعد هجوم الإنكليز على الأراضي المنخَفِضة، كما أثّر اعتقال البريطانيين لقوات الأسطول الروسي في عام 1807 وهو عائد من حوض البحر المتوسط في منطقة لشبونة البرتغالية، على العلاقات بين الإمبراطوريتين، وساهم هذا الأمر بتأجيج الصراعات والحروب حتى عام 1809، قَبل أن تُحلّ الخِلافات وتوقَّع معاهدات السلام بين عامي 1810 - 1812. استمرّ «الأَخذ والرّد» بين الإنكليز والروس، دَعَم الغرب الولايات المتحدة الأميركيّة في القرن الماضي ضدّ الإمبراطوريّة الروسيّة، وفي تلك المَرحَلة كان الحِلف استراتيجيّاً بين لندن وواشنطن حتى سقوط الاتّحاد السوفياتي، تراجَعَت روسيا وأَخَذَ الغرب مَجدَه، حَاوَلَت بريطانيا الّلعب على وتر الاستخبارات الروسيّة، واستمالة رجال أمن روس مستغلّة تفكك الاتحاد والحالة الصّعبة التي كانت تعيشها دوله السابقة والدّولة الروسيّة على مختلف المستويات. نجح البريطانيّون وتحوّلت لندن إلى عاصمة لجوء بعض رجال الاستخبارات الروس الذين انقلبوا على نظام بلادهم، فقدّمت لهم بريطانيا الدّعم واحتضنتهم، حتّى أن بعضهم استطاع الحصول على الجنسيّة البريطانيّة.

الأزمة تنتقل إلى الإعلام



إعلان بريطانيا مقاطعة كأس العالم سياسيّاً يبقى مقبولاً بالنسبة لروسيا، شرط أن لا تذهب لندن أبعد من ذلك وتفرض عقوبات على الإعلام الروسي، أو أن تلجأ إلى إغلاق قناة روسيا اليوم الناطقة بالإنكليزيّة. وفي هذا الإطار حذّرت وزارة الخارجية الروسيّة الحكومة البريطانيّة من اللجوء إلى مثل هذه الأفعال معتبرةً أن الإعلام البريطاني سيواجه أزمة كبيرة خلال فعاليّات كأس العالم في الصيف المقبل. وأكّدت موسكو أنه في حال سحب ترخيص روسيا اليوم من بريطانيا، فإن موسكو «لن تسمح لأي وسيلة إعلام بريطانية بالعمل في روسيا»، وبالتالي لن تتمكن القنوات الإنكليزيّة من نقل فعاليّات كأس العام، وهو ما سيؤدي إلى خسائر بمليارات الدولارات للإعلام البريطاني المرئي والمسموع، كما الإعلام المكتوب الذي ُمنع مندوبوه من تغطية الفعاليّة الرياضيّة الأبرز على مستوى العالم.


«الأَخذ والرّد» بين الإنكليز والروس طويل، إذ دَعَم الغرب الولايات المتحدة الأميركيّة في القرن الماضي. وفي تلك المَرحَلة كان الحِلف استراتيجيّاً بين لندن وواشنطن حتى سقوط الاتّحاد السوفياتي، تراجَعَت روسيا وأَخَذَ الغرب مَجدَه، حَاوَلَت بريطانيا الّلعب على وتر الاستخبارات الروسيّة، واستمالة رجال أمن روس مستغلّة تفكك الاتحاد السوفياتي والحالة الصّعبة التي كانت تعيشها دوله السابقة والدّولة الروسيّة على مختلف المستويات. نجح البريطانيّون وتحوّلت لندن إلى عاصمة لجوء بعض رجال الاستخبارات الروس الذين انقلبوا على نظام بلادهم، فقدّمت لهم بريطانيا الدّعم واحتضنتهم، حتّى أن بعضهم استطاع الحصول على الجنسيّة البريطانيّة.