إذا كانت استطلاعات في لبنان ليست محل إجماع، فإن المشكلة تكبر عند الحديث عن الإحصاءات. والنقاش حول الواقع الديموغرافي اللبناني يستخدم عادة لإثارة مخاوف أو عرض طلبات، من دون أن يتحول إلى جدل علمي حول هوية النظام الأنسب لإدارة هذا البلد، وخصوصاً عند الحديث عن اختلال كبير في التوازن بين المسلمين والمسيحيين.
يشرح الدكتور بطرس لبكي، في نقاش عام 2015، أن التوازن السكاني لا يزال قائماً بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، وهو يتحدث عن ملف الهجرة قائلاً إن أعداد المسلمين المهاجرين الى الخارج زادت كثيراً خلال العقود الأخيرة، قياساً الى نسبتها عند المسيحيين.
النقطة نفسها، وردت أيضاً في دراسة صادرة عن المركز اللبناني للمعلومات عام 2013، أشارت الى أن نسبة المهاجرين من المسلمين تضاعفت ثلاث الى أربع مرات عنها عن المهاجرين المسيحيين بين عامي 1982 و2010.
لكن ما توفره الحكومة من أرقام رسمية ثابتة يبقى محصوراً في لوائح الشطب الخاصة بالناخبين، وهي تبقى الأكثر دقة، بسبب سعي الجماعات المتنافسة في الانتخابات الى التدقيق لعدم خسارة أي صوت. وتكفي مراجعة ثلاثة أرقام حول التوازن بين المسلمين والمسيحيين في لوائح الشطب خلال 25 سنة (أي منذ توقف الحرب الأهلية بداية التسعينيات)، حتى يتبين حجم التغيير المرتقب بعد 25 سنة من الآن.

بعد ربع قرن، يصبح المسيحيون أقل
من 25% من الناخبين، والنظام الطائفي
يقضي عليهم أفراداً أو مجتمعين


في عام ١٩٩٢، أظهرت لوائح الشطب أن نسبة الناخبين المسيحيين تقارب حوالى 45.5%، مقابل 54.5% عند المسلمين. وفي عام 2000، تراجعت نسبة المسيحيين الى 42.5%، مقابل 57.5% عند المسلمين، وفي عام 2016، أصبحت نسبة المسيحيين 36.5%، في مقابل 63.5% للمسلمين. بينما يشكل غير المقيمين حوالى 15% من أعداد الناخبين المسجلين في لوائح الشطب. وأكثر ما يلفت في الدراسة الأخيرة التي أعدها الباحث الإحصائي كمال فغالي أن غالبية كبيرة من المسيحيين المهاجرين لا يسجلون أبناءهم المولودين في الخارج ضمن القيود اللبنانية.
هذه المقاربة تعكس مساراً انحدارياً في نسبة المسيحيين. ويمكن إيراد عشرات الأسباب لحصول ذلك، من بينها تراجع الحضور الوازن للمسيحيين على صعيد إدارة الحكم في البلاد سياسياً، وتراجع نفوذهم الاقتصادي والمالي أيضاً. وقد يكون انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وعودة النشاط الكلي للقوى المسيحية الى الدولة ومؤسساتها، سبباً مساعداً على وقف النزف المسيحي من جهة، وربما على عودة مسيحيين من الخارج الى لبنان. لكن هذا التقدير يحتاج الى إثباتات نوعية، بينما يفترض علم الإحصاء أن التراجع المسيحي سيستمر، حتى لو خفّت وتيرته، ما يعني أنه يمكن تقدير نسبة المسيحيين من الناخبين في لبنان، بعد ربع قرن، بما لا يتجاوز نسبة الربع من إجمالي ناخبي لبنان.
لو كنت لبنانياً مسيحياً، ماذا تفعل؟
لندع جانباً الإجابات التي ستخرج على لسان من يعتقدون اليوم أنهم ناطقون باسم المسيحيين في لبنان. ولندع جانباً لامبالاة قد تبرز لدى قسم من مسلمي لبنان. ولنبحث في الأمر من زاوية أن المصلحة المباشرة لهذا المواطن اللبناني، المسجل الى جانب اسمه أنه من الطوائف المسيحية، تكمن في إنتاج نظام حكم في لبنان، لا يميزه عن باقي المواطنين. والتمييز، هنا، لا يتم إلا متى شطبت الديانة من جانب اسمه. وهذا الشطب ليس عملية إجرائية وإدارية، بل هو شطب من آليات العمل اليومية في إدارة البلاد على جميع المستويات.
وفق هذا المنطق، يجب العودة الى مساءلة الأطراف المسيحيين عن أفكارهم المتداولة في مناقشات قوانين الانتخابات، حيث يظهر بقوة سعيها، بحجة حفظ الأقلية المسيحية، الى تبني أفكار وأنظمة اقتراع تدفع نحو المزيد من التقوقع والانغلاق. بينما علمتنا تجارب لبنان خلال العقود الخمسة الماضية أنها أفكار ليست مدمرة للمسيحيين فقط، بل لجميع اللبنانيين.
عندما كان الإسلام السياسي في لبنان يرفض قبل سنوات قليلة وصول العماد عون، بوصفه ممثلاً أصلياً للمسيحيين، الى رئاسة الجمهورية، كان يمكن فهم لجوء مسيحيين الى القانون الأرثوذكسي، باعتبار أنهم كانوا يبحثون عن قانون «يحفظ الحق في أن يختار المسيحيون نوابهم». لكن التغيير النوعي الذي حصل في البلاد نهاية تشرين الأول الماضي بوصول العماد عون الى رئاسة الجمهورية يفترض العكس. وما يجري في البلاد منذ ذلك التاريخ، وطريقة إدارة الحكومة والملفات العامة، يعكس تقدماً في النفوذ المسيحي على أكثر من صعيد. ويتزامن مع استعادة قسم كبير من المسيحيين ثقتهم بأنفسهم، وعدم حاجتهم الى التقية في ممارسة السياسة العامة، ما خلق مناخاً تسبب بنقزة عند قسم من المسلمين، الذين يظهرون خشية من وجود رغبة مسيحية بالعودة الى زمن ما قبل اتفاق الطائف.
بالتأكيد، ليست هذه المخاوف في محلها، لكن المخاوف التي يجب على المسيحيين الالتفات إليها، هي أنه في أي لحظة إقليمية ودولية ومحلية مختلفة، قد يخرج من بين المسلمين من يدعو الى التخلي عن اتفاق الطائف، ليس للعودة الى ما قبله، بل للذهاب نحو نظام طائفي جديد، لكنه يستند الى العددية معياراً في طريقة تشكيل المؤسسات. وفي هذه الحالة، ستكون المناصفة أولى الضحايا، وليس مضموناً أن تكون المثالثة هي البديل.
منطق الأمور، وتجارب الشعوب في العالم، يقودان الى نتيجة حتمية بأن الدولة المدنية الشاملة هي التي تحفظ حقوق جميع مواطنيها، من دون النظر الى دياناتهم ومذاهبهم وأعراقهم وألوانهم. وفي حالة التنوع الديني والطائفي والمذهبي في بلد مثل لبنان، لا يكون المطلوب الدولة المدنية فحسب، بل الدولة العلمانية التي ترفض اعتبار الديانة سبباً في أي تمييز يصيب أي مواطن، وتجعل الأمور الدينية خارج إطار الدولة نهائياً، وتفرض على القائمين عليها قوانين تمنع استخدامها في الاعتداء على الحق العام، من دون أن تقمع أي ممارسة أو أي اعتناق لدين أو لمذهب.
لذلك، فإن القتال لاعتماد النسبية الشاملة نظاماً انتخابياً مع اعتماد لبنان دائرة واحدة، يمثل المدخل الإلزامي، نحو خطوة أكبر تتمثل في إلغاء القيد الطائفي، والذهاب سريعاً نحو العلمنة الشاملة، حيث لن يكون هناك غبن على أساس طائفي أو مذهبي، وحيث يمكن بناء مؤسسات وطنية، في الأمن والقضاء والتعليم والصحة، تحول دون أي تعسف تفكر فيه جماعة ضد أخرى...
كل نقاش خارج النسبية الشاملة هو كمن يكنس الوسخ ويرمي به تحت السجادة، حيث تمهد الطريق عادة نحو الفوضى والخسائر الكبرى!