صعب، ربما بالنسبة إلى من يحيا خارج جدران السجن الفعلي، أن يدرك المعنى الذي توصل إليه دوبريه عن اللذة. صعب أن يفهم كيف تتحول قطعة خبز في لحظة ما ــ بعد انقطاع طويل عن تناول السكر ــ إلى فرح يتحرك بين الفكين كمن يتناول كعكة مغطسة بالروم! لكن من يعيش في الأسر على غرار ما كانت عليه حياة دوبريه، ربما أصبحت تلك المعاني بالنسبة إليه بديهية. وللمفارقة، الكاتب والمناضل الفرنسي لم يكن متزوجاً، ولم يكن لديه أولاد. فهؤلاء وحدهم يأخذون حيّزاً كبيراً من حياة الأسير ومشاغله، كما في الحالة الفلسطينية.
ولكونهم كذلك، فإنهم من وجهة نظر الاحتلال يشكلون إحدى نقاط الضعف التي يمكن المناورة عليها خارجاً. وجراء ذلك، يعمد صائغو القوانين في إسرائيل إلى استهداف حياة الأسير في «الزمن الآخر». وآخر ما توصل إليه القانون الإسرائيلي في هذا الشأن هو مقترح لسلب مخصصات الأسرى والشهداء، وتحويلها إلى تعويضات لـ«متضرري العمليات الإرهابية».

لماذا سلب المخصصات؟

يأخذ المناضل على عاتقه قرار «إنارة الظلمات» عن الضمائر «الحاضرة والغائبة»، مدركاً أن قراره قد ينتهي بالشهادة أو بالأسر بعد تنفيذه عملية فدائية. وقبل الوصول إلى «اللحظة الحاسمة»، لا بد أنه فكّر ملياً في سؤال «ماذا بعد؟»، وهو سؤال قد ينتج منه عدد لا نهائي من الإجابات، إذ إن تلك اللحظة ستغيّر كل شيء.
وبمجرد أن يعتقل المناضل، تتحول حياة ذويه وأقربائه إلى جحيم فعلي، من الاستجوابات، واقتحامات المنزل، والعبث بالأغراض الشخصية، إلى التعدي على المساحات الخاصة بالأفراد. وفي الحالات القصوى تهدم البيوت ويشرد ساكنوها، ثم يُجردون من أبسط الحقوق الإنسانية البديهية. في هذه الحالة، ينبغي أن تأخذ جهة ما على عاتقها مسؤولية تأمين العيش الكريم بحده الأدنى لهذه الأسر.

يهدف القانون إلى مصادرة الأموال الفلسطينية لمصلحة مصاريف إسرائيلية

في الحالة الفلسطينية، هذه الجهة هي وزارة المالية، التي تموّل مخصصات الأسرى من الضرائب التي تجبى من الفلسطينيين. «تصرف هذه المخصصات شهرياً على ذوي الأسير من أبنائه وزوجته، بهدف تأمين حياة أسريّة كريمة تحول دون عوزهم»، يشرح مدير هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين في بيت لحم، منفذ أبو عطوان، مضيفاً أنها «مبالغ رمزيّة وليس كما يدّعي الاحتلال».
ويتبيّن في وثائق اطّلعت عليها «الأخبار» أن كل أسير فلسطيني يُحكم مدّة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات يحصل على مخصصات شهرية تبلغ قيمتها 368 دولاراً أميركياً، وعلاوة 90 دولاراً للزوجة، ونحو 16 دولاراً عن كل ابن قاصر، فيما يحصل الأسير المقدسي صاحب المحكومية نفسها على علاوة أخرى هي 90 دولاراً، وإذا كان من المناطق المحتلة عام 1948، فيحصل على 130. وتزداد قيمة المخصصات الشهرية بالتدريج كلما زادت محكومية الأسير، لكن الحدّ الأقصى هو الذي يحصل عليه أصحاب أطول محكوميات (30 سنة فما فوق) ثلاثة آلاف دولار شهرياً.
هذه عيّنة بسيطة من «الدعم المالي» الرمزي الذي يحصل عليه الأسرى كمخصصات يريد الاحتلال مصادرتها بادّعاء أنها «تشجع على الإرهاب»؛ فقد صدّقت اللجنة الوزارية للتشريع على مشروع قانون يسلب هذه المخصصات، وينص على أن وزير الأمن ملزم بتقديم معطيات سنوية عن فاتورة المخصصات التي تحوّلها السلطة الفلسطينية للأسرى وعائلات الشهداء، وهي في الأساس من عائدات الضرائب التي تحولها سلطات الاحتلال للسلطة بموجب اتفاقات أوسلو وباريس. أمّا الهدف من التقرير السنوي الذي يقدمه وزير الأمن، فهو خصم قيمة هذه المخصصات من عائدات الضرائب التي هي حق للفلسطينيين، ويدفعها هؤلاء أساساً من جيوبهم وتعبهم، ويحق لهم الاستفادة منها بالدرجة الأولى.

الكانتينا: «مقصف انتركونتيننتال»

بينما تصل مخصصات الأسرى إلى حسابات ذويهم المصرفية في البنوك، يصل إلى حساب الأسرى في السجون مبلغ مئة دولار أميركي تقريباً، وفق أبو عطوان. وعلى باب السجون، بات مألوفاً مشهد الأمهات أو الزوجات وهن يتوسلن السجانين للسماح لهن بإدخال ملابس واحتياجات ضرورية لذويهن، والجواب دائماً هو الرفض، وذلك بهدف التعذيب والإذلال وإهانة الكرامة، فيما يختفي وراء ذلك هدف اقتصادي بحت. يقول محامو الأسرى إن أرباح تجارة «الكانتينا» داخل السجون تقدر بأكثر من مليون شيكل سنوياً، وتموّلها بالدرجة الأولى الخزينة الفلسطينية العامة، وهيئة شؤون الأسرى والمحررين.
«الكانتينا» تديرها شركات إسرائيلية فقط، ولا يُسمح بإدخال أيّ منتجات فلسطينية إليها. وبالنسبة إلى الأسعار التي تبيع بها ما يحتاج إليه الأسرى، فإنها «فلكية» مقارنة بأسعار البضاعة نفسها في الخارج. ورغم أن الاتفاقات والمعاهدات الدولية تُلزم الجهة الآسرة بتوفير الاحتياجات الأساسية، فإن الأسير الفلسطيني يضطر إلى دفع نفقة أسره!
بناءً عليه، يشتري الأسير من «الكانتينا» مواد التنظيف والورق الصحي، والملابس، والمأكولات والمشروبات، بسبب رداءة وقلّة الطعام المقدم إليهم. أمّا الأسيرات، فيشترين الفوط الصحية أيضاً من أموال «الكانتينا» المحوّلة إليهن. وبما أن الأسعار داخل السجن تعادل ثلاثة أضعافها خارجه، فإن الأسرى دائماً ما يتخطّون مخصّصهم الشهري.
ضمن هذا الإطار، تحفّظت وزارة الماليّة الإسرائيلية على مشروع القانون الذي قدّمه وزير الأمن، أفيغدور ليبرمان، وذلك بعدما فحص القسم القانوني في «المالية» جوانب عدّة، وقدم وثيقة تتحفّظ على عدد من البنود. والسبب ليس «إنسانياً» بطبيعة الحال، وإن دل على شيء، فإنما يدل على حجم الاستفادة الاقتصادية بالنسبة إلى إسرائيل من مسألة مخصصات الأسرى.

ليبرمان يحوّل «التهديد» إلى «فرصة»

رغم أن أقل كلمة قد تقال بحق هذا القانون انه جريمة جديدة بحق الأسرى، لكونه يشرعن سلب حقوقهم، فإن طرح ليبرمان وكل من سبقوه ينمّ عن «مكر»؛ فسلب المخصصات يهدف بالدرجة الأولى إلى تعويض «متضرري» العمليات من إسرائيليين، وتمويل قضايا رفعها هؤلاء في المحاكم الإسرائيلية ضد السلطة الفلسطينية ومنفذي العمليات. كذلك، يفترض أن تصرف الأموال المنهوبة على دعم مشاريع تعزز مكافحة «تمويل الإرهاب»، إضافة إلى تحسين البنية التحتية المدنية.
ووفق آخر بيانات نشرتها وزارة الأمن الإسرائيلية، يتضح أن المبالغ التي تدفعها المالية الفلسطينية لعائلات الأسرى والشهداء تصل إلى 345 مليون دولار سنوياً. وفي العام الماضي وحده، قدمت السلطة، عن طريق هيئة شؤون الأسرى والمحررين، إلى أسر منفذي العمليات من أسرى وجرحى وشهداء، ما قيمته 200 مليون، ما يعني أن نحو 7% من ميزانية السلطة تصرف كمخصصات سنوية لهذا الغرض.
وغرّد ليبرمان، مع التصديق على مشروع القانون تمهيداً لعرضه أمام الكنيست للتصويت عليه، على حسابه في موقع «توتير» قائلاً: «قريباً سنضع حداً لهذه المهزلة السخيفة... رواتب المخربين التي سنأخذها ستستخدم لمنع الإرهاب، ولتمويل الضحايا».