في الحقبة التي صعد فيها «سيريزا» إلى الحكم في اليونان، كانت التحديات أمام اليسار مختلفة عنها حالياً، فالمواجهة حينها كانت محكومة بمحدِّدات واضحة للغاية. إذ لم تكن أزمة الهجرة قد انفجرت بعد، ولم يكن التداخل بين الصراعين الطبقي والثقافوي قد وصل إلى الحدّ الذي نشهده الآن. معارَضة سياسات التقشُّف التي يقودها اليمين في أوروبا كانت هي عنوان المواجهة، وعلى أساسها وصل اليسار البديل إلى الحكم في اليونان، ووسَّع نظيره في إسبانيا قاعدته الاجتماعية.
الصراع خِيض على أساس أنّ البديل من سياسات التقشُّف التي يتبنّاها اليمين هو حكم أكثر تمثيلاً للفئات والطبقات الاجتماعية المهمَّشة، وأقلُّ انحيازاً بحكم هذا التمثيل للمصالح الرأسمالية الأوروبية. هُزِم المشروع قبل انفجار أزمة الهجرة وصعود اليمين المتطرِّف على خلفية مجابهتها، وكانت هزيمته إيذاناً بصعود قوىً سياسية تطرح نفسها بديلاً لليسار المهزوم، ولكن من دون أن تمتلك بالضرورة أدواته في التعامل مع الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بأوروبا والعالم.
بديلٌ بلا رؤية
حتى معارَضَة هذه القوى لنمط التراكم الذي أفقر الكثيرين في أوروبا وأميركا بدت ثقافوية أكثر منها اقتصادية، وحين تطرح تصوُّرات اقتصادية تكون متأثرة غالباً بالبعد الثقافوي وبنظرتها الضيّقة إلى قضايا الهجرة والأقليات. هذا وضَعَها في مأزق منذ البداية، وفوَّت عليها فرصة التقاطع مع كثيرٍ من القوى التي تعتبر نفسها متضرِّرة، مثلها، من السياسات الرأسمالية. من هنا نفهم نفورَ اليسار منها وتفضيلَه أن تكون معركته مع «الاستابلشمنت» غير مرتبطة بالتناقضات بين هذا الأخير وقوى اليمين الجديد الصاعدة في أوروبا والولايات المتحدة. فهو يرى أنّ المعارَضة التي تقودها هذه القوى للمؤسَّسات الرأسمالية ليست جذرية كفاية، وهي غالباً من النوع الذي يحدِث الكثير من الضجيج - تماماً كما يفعل ترامب - ولكن من دون أن يقود فعلياً إلى تغيير أيٍّ من هذه السياسات، لا بل يفضي أحياناً إلى التقاطع معها، على خلفية قراءة ساذجة أو غير ناضجة لأنماط التراكم الرأسمالي. ويطرح كمثالٍ عن ذلك تصوُّرها للنمو أو تحريك عجلة الاقتصاد، وهو موضوع أساسي لمعرفة إن كان ثمّة بديل فعلي تطرحه على الناس.
نموٌّ لمصلحة من؟
هي ترى وفقاً لتصوُّراتها الاقتصادية أنه لا يجب استكمال النموّ بعملية توزيع للدخل، بل يجب ترك الشركات تعمل وتحقّق أرباحاً، وبعد ذلك يمكن التفكير في كيفية الاستفادة من هذا الفائض. في رأيها أنّ السوق يجب أن تكبر وتتوسَّع أولاً لأن ذلك هو الذي يخلق الوظائف ويحدّ من أزمة هروب الرساميل إلى الخارج. هذه النظرية في كيفية استعادة الأموال والرساميل من الخارج لتحريك السوق وإيجاد فرص عمل للعاطلين لا تخدم إلا الأثرياء من الأميركيين، كما أوضح ذلك بيرني ساندرز مراراً. وهي فضلاً عن ذلك، تقيم تعارضاً غير مفهوم بين مصالح الطبقة الاجتماعية نفسها، فبدلاً من أن يصبّ الإصلاح في صيغته الطبقية الحالية لمصلحة الشركات على حساب الطبقة العاملة الأميركية برمّتها، إلا أنه يُقدَّم بوصفه انتصاراً ثقافوياً للطبقة العاملة البيضاء. اليمين الجديد هنا لا يخلط الأوراق فقط، بل يقدّم نموذجاً عن أزمة البدائل، وكيف أنّ الحلول محلّ اليسار في معارضة النماذج الرأسمالية القائمة سيقود إلى نتائج من النوع الذي انتهت إليه أزمة الإصلاح الضريبي في الولايات المتحدة.
النسخة الأوروبية
في أوروبا أيضاً يستخدم اليمين الصاعد الأدوات ذاتها في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. هو لا يعتبر سياسات التقشُّف التي أملاها الاتحاد الأوروبي على دول القارّة الفقيرة مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال أحد أسباب انهيار اقتصاد هذه البلدان وفقدان مواطنيها وظائفهم ومكتسباتهم، بل ينظر إليها كنتيجة، ويساوي غالباً بينها وبين أزمة الهجرة إلى أوروبا على خلفية الحروب الحاصلة في سوريا وليبيا وأفغانستان و... إلخ. مساواتُه هذه تمنعه من رؤية الأمور كما هي، أي كما سبّبتها السياسات الرأسمالية الأوروبية، سواء لجهة إفقار اليونانيين والبرتغاليين والإسبان، أو لناحية استغلال حركة الهجرة إلى أوروبا لاستبدال اليد العاملة هناك بالعمال العرب أو الأفارقة أو الآسيويين. في الحالتين، ثمة استفادة رأسمالية واضحة من الأزمة، وثمّة غيابٌ في المقابل لمعارضة أوروبية تضع الأمور في نصابها، ولا تخلط كما يفعل اليمين المتطرف بين الأبعاد الاقتصادية والثقافية لها. التركيز على مسؤولية الهجرة عن حالات البطالة المنتشرة بين الأوروبيين لا يضعنا أمام تصوُّر ثقافوي للأزمة فحسب، بل يُظهِر أيضاً افتقار هذه القوى - كما في الحالة الأميركية - إلى سياسة واضحة في مناهضتها للتراكم الذي تقوده المؤسّسات الرأسمالية. فالنقاش في أوروبا لا يتطرّق إلى السياسات نفسها، ولا يدعو إلى تغييرها جذرياً كما كان يفعل «سيريزا» إبّان صعوده إلى الحكم، بل يناقش فقط كيفية تعديلها بحيث تخدم أكثر مصالح الفئات المتضرّرة من سياسات الاتحاد الأوروبي الخاصّة بالهجرة والعمالة وتنقّل الرساميل. مارين لوبن مثلاً كانت تدعو في سياق حملتها الانتخابية إلى تقييد حركة الرساميل الأجنبية في فرنسا، وإلى استعادة الرساميل والصناعات الفرنسية من الخارج. وهي دعوة تندرج في السياق نفسه الذي يقوده ترامب في الولايات المتحدة لجعل السياسات الرأسمالية متوافقة مع مصالح الفئات التي يمثِّلها، والتي لا تُقدَّم في خطاب اليمين بوصفها طبقاتٍ اجتماعية، بل جماعاتٍ متضرِّرة من الهجرة والامتيازات الممنوحة للاقليات. طبعاً، لا يحدث التراكم بهذه الطريقة، ولا تنتقل الثروة بعد تقييده أو التساهل معه ضريبياً بين الجماعات، بل بين الطبقات، ولكن المعارَضة التي يقودها اليمين المتطرِّف للعولمة أو السياسات الرأسمالية هي التي تصوُّره بهذا الشكل، وهو ما يجعلها في النهاية جزءاً منه لا من معارَضته.
* كاتب سوري