منذ بدء الترويج لإمكانية انعقاد مؤتمر سوتشي للحوار «الوطني السوري»، اتضح أنَّ توجّه موسكو مع حلفاء لها آخرين يميل إلى التركيز على تحضير المناخات المناسبة للوصول إلى لحظة تكون فيها المشاركة بالمؤتمر خياراً شبه وحيد. ولذلك علاقة بالموقف من لقاءات جنيف. وعليه، فإنَّ أطراف المعارضة، وبغضِّ النظر عن تباين مواقفها السياسية، وكذلك النظام، يقفون على مفترق سياسي فاصل سيكون له تأثيرات واضحة على مستقبل سوريا.
دون أن يعني ذلك تفرد موسكو بحل المسألة السورية، فحلفاؤها وكذلك الجهات والدول المتعارضة معها، لهم مصالح مختلفة. ما يضع الجميع أمام احتمالات متعددة، وجميعها تنعكس بشكل أو بآخر على مواقف وخيارات رموز العملية السياسية من النظام والمعارضة.
فأطراف المعارضة المنضوية ضمن إطار «هيئة قوى الثورة، والائتلاف السوري المعارض» ينظرون للمشاركة في لقاءات سوتشي على أنَّه تراجع عن أهداف «الثورة». أمّا من بقي من معارضة الداخل فإنَّ تأثيرهم في مجريات التسوية السياسية يكاد لا يُذكر. ولذلك علاقة بأوضاعهم الذاتية، وأخرى تتعلق بطبيعة نظام الحكم، والأوضاع الدولية والإقليمية ذات الصلة بأوضاع سوريا السياسية. يُضاف لذلك طبيعة العلاقة الهشة والإشكالية لأطراف المعارضة الخارجية والداخلية مع الداخل السوري.
من جانب آخر فإنَّ آلية التمثيل السياسي في سوتشي، سترتكز كما هو واضح على دعوة الأطراف السياسية كافّة، وأيضاً على تمثيل المكوِّنات الاجتماعية المذهبية، والإثنية، والطائفية، والعشائرية، وتشكيلات أخرى مختلفة. وفي السياق، فإنَّ ارتفاع عدد المشاركين وتباين انتماءاتهم، ومصالحهم، وأهدافهم، وولاءاتهم سيزيد من صعوبة التوصُّل لمخارج سياسية للأزمة السورية. ويتقاطع ذلك مع أسباب أخرى سوف تساهم بتراجع تأثير«الوفد الموحَّد» في جلسات التفاوض المزمع إطلاقها من سوتشي نذكر منها:
أولاً، تراجع دعم الأطراف الدولية والإقليمية للمعارضة.
ثانياً، انحسار تأثير «المعارضة المسلحة المعتدلة» نتيجة خسارتها معظم المناطق التي سيطرت عليها. وكان لذلك علاقة بإشكالية الدعم الخارجي والمواقف الدولية، وأيضاً بفشل آليات اشتغال معارضات سياسية ارتبطت بالفصائل المسلحة.
ثالثاً، بالرغم من توافق المعارضة في«رياض 2» على تشكيل وفد «موحَّد»، فإن ثمَّة صعوبات تهدّد بتصدّعه مجدداً منها عدم انسجام أطراف الوفد المذكور من جهة، واستمرار الخلاف على قضايا أساسية يتعلق بعضها بمصير الأسد ودوره في المرحلة الانتقالية من جهةٍ أخرى، إلى جانب الموقف من الدول الضامنة، وأيضاً من الرعاية الروسية لمؤتمر لسوتشي.

ما يجري يصبُّ في سياق منع السوريين من تحديد مصيرهم

رابعاً، خضوع آليات التمثيل السياسي لمنطق المحاصصة.
خامساً، افتقاد أطراف المعارضة للدعم الشعبي، هذا إذا لم نقل إن تناقضاً بات واضحاً بينها وبين غالبية السوريين. ويرجع ذلك إلى أن معارضة الخارج استبدلت مشروعيتها السياسية السورية بأخرى مستمدة من الدول الداعمة لها.
سادساً، افتقاد أطراف المعارضة لقائد سياسي يحظى بإجماع سوري يمكِّنه أن يكون بديلاً عن الرئيس الأسد. يضاف لذلك ما يتم الكشف عنه من حالات فساد تورّط فيها كثير من رموز معارضة الخارج.
سابعاً، عدم قيام أطراف المعارضة بإجراء نقد ذاتي يمكّنها من تصويب مساراتها السياسية وآليات اشتغالها وطبيعة علاقتها مع الداخل السوري ومع الأطراف الدولية والإقليمية.
في المقابل، فإنَّ وفد الحكومة السورية سيذهب إلى سوتشي مزهواً بنشوة الانتصار على المعارضة السياسية منها والمسلحة. وعلى كلِّ سوري طالب بالتغيير. ويزيد من شعور نظام الحكم بقوة «الانتصار» استمرار الدعم الروسي والإيراني، وتبدّل موقف غير دولة إقليمية وأوروبية لصالحه. ما يعني أنَّ فرقاً واضحاً بين معارضات سياسية باتت تكتفي بإبرام تسوية سياسية تمكّنها من المشاركة في الحكم، ولذلك علاقة بفشلها المرتبط بجانب منه بتعقيدات الأوضاع الدولية والإقليمية. وبين نظام يستفيد من استمرار دعم حلفائه لتمكين «انتصاره»، وبالتالي استمراره في الحكم، متجاهلاً خطورة اتساع الفجوة بينه وبين المجتمع السوري الذي عانت فئاته كافة من الظلم، والقهر، والقمع، والتغريب الاقتصادي، والتغييب السياسي، فإن ذلك يرتبط بطبيعة العلاقة السياسية القائمة على الارتهان للخارج، وأيضاً التبعية الاقتصادية له. وفي السِّياق فإنَّ عدم التوافق بين أطراف المعارضة، وكذلك النظام، وأطراف دولية وإقليمية على مستقبل الأكراد السياسي، وعلى مشاركتهم في اللقاءات السياسية الدولية والذي تجلى مؤخراً برفض أنقرة حضور «حزب الاتحاد الديموقراطي» مؤتمر سوتشي، سيساهم في عرقلة المفاوضات السياسية، وتحديداً في ظل استمرار الدعم الأميركي المرتبط بالوصاية والهيمنة على المسألة الكردية، التي تشكل بالنسبة لواشنطن مدخلاً لضبط الخارطة الجيوــ سياسية في سوريا.
إنَّ استمرار نظام الحكم بفعل تفاهمات دولية وإقليمية توافقية تحافظ على ذات العلاقات السياسية والاقتصادية الداخلية منها والخارجية، ولا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن مصالح السوريين ورؤيتهم للتغيير. وانطلاقاً من ذلك، فإنَّ تمكين تماسك بنية الدولة واستقرارها وسيادتها وفق أشكال من العلاقة تضمن مصالح السوريين وحقوقهم السياسية والاقتصادية، يحتاج إلى تغيير شامل وعميق في بنية وتركيبة وطبيعة الدولة وكذلك نظام الحكم، الأمر الذي يرفضه النظام حتى اللحظة، والأطراف الداعمة له، وغير حكومة تدّعي دعم المعارضة والسوريين. ولا يتجلى ذلك فقط بعدم جدية تلك الأطراف في تمكين نظام سياسي ديموقراطي محمول على قوى سياسية تمثل السوريين، وتمكنهم من المشاركة الحقيقية والفاعلة. لكنَّه يتجلى بأشكال أكثر خطورة تتمثل بالاشتغال على إعاقة أي تحول وطني ديموقراطي محمول على قوى شعبية. بمعنى آخر، إنَّ ما يجري في سوريا من صراعات مدولنة يصبُّ في سياق منع السوريين من تحديد مصيرهم بشكل مستقل؛ وأيضاً منعهم من إقامة نظام ديموقراطي يضمن مناخاً سياسياً مفتوحاً. ولذلك أسباب متعددة أبرزها:
أولاً، أهمية سوريا الجيوــ سياسية.
ثانياً، بنية الاقتصاد العالمي المهيمن وميوله القائمة على تأبيد تبعيتنا للغرب، ويتقاطع ذلك مع علاقات سياسية دولية تقوم على التنسيق مع أنظمة سياسية تهدر كرامة مواطنيها وحرياتهم وحقوقهم المشروعة، وأيضاً ثرواتهم الوطنية، إذ تؤكد جميعها ارتباط مصالح الأطراف الدولية المهيمنة بإعادة إنتاج نمط الدولة المتوارث وشكل النظام السياسي المسيطر. ما يشكل طعنة قاتلة لمعارضات ما زالت تراهن على الدعم الخارجي لاستبدال نظام الحكم ودعم «التغيير الديمقراطي».
* كاتب وباحث سوري