يبدو واضحاً أنّ الشق العسكري من المشروع الغربي قد خسر في سوريا. الأمر بات أكثر جدية من مجرد تكهّن وأكثر صدقية من محض تحليل. مع ذلك، لم تخسر القاطرة الغربية، التي تجرّ وراءها عربات عربية ملحقة، الحرب. على العكس من ذلك، من المعلوم أنّ السياسة الغربية في سوريا كانت استثناءً لجهة اتخاذها شكلاً عسكرياً لم تعتد ممارسته، أو بالأحرى لم تعتد الانتصار فيه عندما تركن إليه، ولا يتسع المكان لعشرات الأمثلة على محطات فشله.
الآن، وبعدما انقشع الغبار عن مقتلة عظيمة في سوريا، مات فيها «الاعتدال العربي ــ الغربي» أكثر ممّا مات فيها خصومه، سينتقل الغرب على الأرجح إلى ساحة المعركة المفضّلة لديه، الحصار والعقوبات، معطوفة على بطاقات الترضية على شاكلة المناطق الآمنة التي قد تشكل بدورها قاعدة مستقبلية لإعادة عسكرة مشروعه. معركة العقوبات والعزل تلوح في الأفق، ونحن نشهد الآن ترتيباتها الضرورية. إذاً، من المستبعد أن تتخذ مقاطعة النظام في سوريا طابعاً ظرفياً، وسوف يكون الهدف منها على الأرجح الضغط لتحقيق مطلب أو مطالب معينة؛ بمعنى أنها ليس مقاطعة تفاوضية، هي أسلوب صراعي طويل النفَس يستهدف الفتك بالخصم والخلاص منه، تماماً كالمعركة التي خسرتها القوى نفسها بالحديد والنار خلال السنين الماضية. كلتا المعركتين تتشاركان الأهداف عينها وتختلفان في الأسلوب فقط. في لبنان، بدأ ترتيب الذراع السعودية لتسهم بنصيبها من شدّ الخناق على النظام في سوريا. من نافل القول إن مجرد إخراج هذه الذراع من الهشاشة سيُعتبر إنجازاً مرحلياً، نظراً لافتقار هذه الذراع المريع إلى الكالسيوم الخطابي، خاصة بعد الدخول الاحتفالي لمعركة الجرود في المخيال الشعبي اللبناني، على فوضى هذا الأخير ومقاومته للاتساق الهوياتي.
لن تكون المهمة السعودية سهلة لبنانياً، ومن المرجّح أن الدبلوماسية السعودية لم تقم من الأساس بدراسة منطقية وهادئة لسيناريو إعادة إنتاج «همروجة» قوى الرابع عشر من آذار مجدداً. ولكنها ستراهن على بناء نواة تستفيد من مدٍّ خارجي قادم لا محال، عندما تبدأ تداعيات الحصار والعزل بالوصول. إذاً، هي محاولة لبناء أرضية استثمارية مناسبة لمستثمرين محتملين. لا حاجة للإشارة إلى سمعة اللبناني الشهيرة بقدرته على البيع والشراء. ولكن، كيف ستستطيع جوقة أن تدير الشق اللبناني من العقوبات والحصار والعزل ضد سوريا؟ وبطريقة أدقّ، كيف ستستطيع هذه الجوقة استئناف معركة دبلوماسية ومالية لبنانية في سياق هزيمة ميدانية موصوفة شاركت المقاومة في لبنان في تكبيدها إياها؟ قياساً على أداء الأخيرة من حيث امتناعها عادة عن صرف إنجازاتها في غير الميدان المباشر، هنالك رهان على النجاح في جرّ الخصم إلى لعبة العقوبات والحصار عبر تكتيك «إسكاره» بانتصاره العسكري ومن ثم تعقيم هذا الانتصار وتحويله إلى مجرد محطة تاريخية لا تنجب إلا الشعارات والصور المعلقة في الساحات العامة والمطولات الصحافية التبجيلية.
في كل الأحوال، يبدو أنّ أمام النظام في سوريا معركة حصار وعزل طويلة، ولا تلوح في الأفق مؤشرات تفيد العكس. ومن النافل القول إنّ اللحظة التي توافق فيها سوريا وحلفاؤها على خوض معركة العقوبات هي على الأرجح لحظة الخسارة فيها، لا يمكن «الانتصار» على الغرب وحلفائه في معركة كهذه، يمكن الصمود في أحسن الأحوال. وهو صمود سيرافقه تآكل سيحدث فرقاً لصالح الخصوم على المدى الطويل. ماذا بشأن ما يُسمّى العملية السياسية إذاً؟ هذه بدورها طريقة أخرى للقضاء على مركزية القرار في سوريا، لذلك من الصعب على النظام أن يقدّم تنازلات حقيقية في هذا السياق، ومن الصعب على معارضيه أيضاً أن يدخلوا هذه العملية السياسية في غياب تنازلات ملموسة عن قدر معين من السلطة. هذه معضلة من المرجّح أن لا تجد طريقاً سهلاً أمامها للحل.
* كاتب لبناني