تسيطر طبقة المال الفلسطينية «الجديدة» على كل المؤسسات «الوطنية» والقرار السياسي وترهنها في إطار علاقتها ومصالحها المباشرة مع الشركات الكبرى ومع نظام ومشيخات البترودولار. نحن نعرف اليوم أكثر عن كيف نمت مصالح هذه الطبقة في الوطن المحتل وكيف تشابكت مصالحها مع اقتصاد العدو الصهيوني بل ومستعمراته في الضفة المحتلة، تبعية شبه مطلقة وشاملة للكيان الصهيوني.
فيما ظل دورها السياسي يتنقل بين التذمر من الاحتلال وإجراءاته القاسية تارة، والتذمر من المقاومة أو ما أسمته بـ«عسكرة الانتفاضة» أو «العنف المتبادل» تارة أخرى، أما ممارستها، على الأرض من خلال سلطتها في المناطق فكانت عسفاً ضد قوى المقاومة وحالة من التعاون والرضوخ والشراكة مع العدو... فلا دولة فلسطينية قابلة للحياة، وقد أسست لكيان أوسلو وجلست فيه.. وقضي الأمر!
مبكراً جرى تعريف هذه الطبقة الفلسطينية التابعة، في زمن الشهيد غسان كنفاني، على أساس أنها «برجوزاية تجارية مصرفية تتشابك مصالحها وتترابط مع مصالح الإمبريالية التجارية وأن أساس ثروة هذه الطبقة ومصدر غناها هو السمسمرة للبضائع الأجنبية ووكالات التأمين والمصارف، وبالتالي فهي في المدى الاستراتيجي ضد الثورة. قيادات البرجوازية التقليدية تستقبل ساسون ودايان والحكام الإسرائيليين وتبحث معهم في موضوع الكيان الفلسطيني الذي تخطط له إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية وتحقيق النصر السياسي بعدما حققت نصرها العسكري (الاستراتيجية السياسية 1969 – الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ص. 73).
أدركت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» خطورة الدور الذي تقوم به البرجوازية الفلسطينية الكبيرة وحذرت منه دائماً، بل وتوقعت وصول الثورة بقيادة البرجوازية إلى أزمة وكارثة محققة. فلا شخصية أبو الخيزران (المخصي) في رواية «رجال في الشمس» جاءت من فراغ ولا الموقف السياسي الذي عبرت عنه «الجبهة الشعبية» حين لاحظت أن العمل الفدائي (الكفاح المسلح) هو الطريق الوحيد لردع طبقة المال الفلسطينية ومنعها من الإقدام على تسوية لتأسيس كيانها الفلسطيني.
طبقة أوسلو اليوم أسست لكيان أوسلو. وهي ذات الطبقة التي جرى ذكرها أعلاه قبل 40 سنة وامتدادها إلى درجة أن «العائلات» ذاتها والأسماء ذاتها والحركة السياسية التي سيطرت على القرار الوطني الفلسطيني هي ذاتها أيضاً. مع فارق أنها صارت أسوأ ألف مرة...
تعريف البرجوازية الفلسطينية الكبيرة والتوصيف لعلاقاتها ودورها الكارثي في قيادة المجتمع والثورة، هذا الفهم الثوري تراجع للأسف الشديد بعد عام 1974، وتحديداً بعد تسلل شعار «الدولة الفلسطينية» إلى الخطاب السياسي الفلسطيني واحتلاله وتكبيله.
وبعد انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 قيل إن الدولة الفلسطينية المستقلة هي مصلحة للبرجوازية والرأسمال الوطني، كما هي مصلحة للطبقات الشعبية الفلسطينية، ولتكن إذاً القاسم المشترك! وقيل أيضاً إن الانتفاضة كما ورد مراراً وتكراراً على لسان الرفيق جورج حبش «نقلت الدولة الفلسطينية من حيز الإمكانية التاريخية الى حيز الإمكانية الواقعية»! هذا بالضبط ما أردات أن تسمعه رموز البرجوازية الفلسطينية الكبيرة في المنظمة مغفلة عن قصد حقيقة أن الدولة الفلسطينية كما فهمها جورح حبش «مهمة كفاحية طويلة لن تاتي عبر التفاوض مع العدو»!
لقد وظفت البرجوازية الفلسطينية الكبيرة بدعم النظام العربي الرسمي و«المجتمع الدولي» شعارات مثل «الحرية والاستقلال» و«الدولة المستقلة»، لأنها كانت فعلاً تبحث عن وطن لمالها وعن بنوك فلسطينية للحفاظ على مصالحها وهيمنتها وعلى القرار السياسي، واستطاعت من خلال جيش الموظفين والمثقفين ومن خلال حزبها السياسي «حركة فتح» تضليل الطبقات الشعبية في عملية تزييف واستلاب للوعي واستغلال رخيص لعواطف الجماهير الشعبية التي قيل لها أنْ توقف انتفاضتها لأن الدولة أصبحت على مرمى حجر!
وبالقدر الذي كانت تفرض البرجوازية الكبيرة سطوتها وتحكم قبضتها على المؤسسة الفلسطينية المالية والعسكرية والثقافية والإعلامية وعلى مركز القرار في المنظمة والسلطة، بالقدر الذي كانت تفقد فيه الطبقات الشعبية الفلسطينية سلطتها وموقعها ومشروعها التاريخي، ثم وجدت نفسها بين فكي كماشة، بين مطرقة الاحتلال وسندان وأسنان «القطاع الفلسطيني الخاص». إن ما يحدث من تعاون اقتصادي يجد تمثلاته في أرض السياسة أيضاً وعلى شكل تنسيق أمني وسجون وعمالة بلا حدود!
وجدت البرجوازية «الوطنية» الفلسطينية خلاصها إذاً في خشبة الانتفاضة الشعبية الكبرى عام 1987 فنظرت لها نظرة ضيقة واستخدامية نفعية وباعتبارها القاطرة التي ستأخذها إلى الدولة الفلسطينية الموعودة، لقد تضاعف إنتاجها وتراكم رأسمالها المالي في الأرض المحتلة مع سنوات الانتفاضة بسبب المقاطعة الشعبية الواسعة للمنتوجات الصهيونية والإقبال على المنتج الوطني والمحلي فضلاً عن ما كانت تحصل عليه من «الدعم العربي» و«أموال الصمود» فسال لعابها أكثر، ثم صار نصفها الآخر، شرقي النهر وفي الخارج، يبحث هو الآخر عن حصته من كعكة السلطة في التسوية التاريخية المقبلة...
ويمكن القول إن نتائج حرب الخليج الأولى وانهيار الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي وغيرها من أسباب، إضافة إلى حزمة من الحجج والذرائع الواهية والأوهام التي لا حصر لها، وفّرت أرضية مناسبة لهذا الفضاء السلبي العام الذي فيه أقدمت قيادة «منظمة التحرير الفلسطينية» ومعها الطبقة التابعة من كبار التجار والسماسرة والوكلاء نحو المنزلق الخطير والكارثي الذي تمثل في توقيع اتفاق أوسلو، أو وثيقة إعلان المبادئ، في 13 أيلول/ سبتمبر 1993.
و«عادت» الرساميل الفلسطينية إلى «الوطن» مع ياسر عرفات بعد توقيع اتفاقية أوسلو. وأسست البنوك والمصارف والشركات المتعددة وخصوصاً في مجال الإنشاءات والعقارات والتجارة من موقع التابع والملحق الصغير وبالتعاون الوثيق مع اقتصاد العدو في إطار علاقات التشابك المصرفي المالي مع بنوكه ومع النظام العربي الرسمي، وبخاصة الخليجي وما يسمى بـ«الدول المانحة». واعتبرت الرأسمالية الفلسطينية «الجديدة» أن السلطة الجديدة هي ملكية خاصة لها وممثلها الشرعي الوحيد. فانزلقت أكثر وأقدمت على توقيع اتفاقيات باريس الاقتصادية وغيرها فألحقت بالغ الضرر في بنية الاقتصاد الوطني الإنتاجي وشوهته أكثر ودفعت كتل شعبية فلسطينية متزايدة إلى القاع وإلى حياة الإفقار والارتهان والمديونية.
وإذا نجحت البرجوازية الفلسطينية في جني مليارات الدولارات لصالح حساباتها في البنوك إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق «الاستقلال» و«التنمية» و«الديموقراطية» وسقطت كل مقولاتها الواهية. هذه الطبقة لا يمكن أن تغير طبيعيتها الطفيلية الارتزاقية النفعية ولا نزوعها الدائم للتسوية وانشدادها إلى منطق الصفقة التجارية في كل شيء. ولذلك أدمنت طريق وأفيون المفاوضات أو المفاوضات.
أسست «طبقة أوسلو» لكيان هجين لا شكل له ولا روح، فانتشر الفساد السياسي والمالي والأخلاقي والإداري في كل أجهزة السلطة. وفي الوقت ذاته، تركت الطبقات الشعبية تواجه مصيرها وتعتمد على «الوظيفة» وسوق العمل العبري وما تقدمه لها مصانع العدو من فرص عمل، هذه المصانع بدأت تنتقل عن قصد للضفة وفي محيط المستعمرات، وبعد عقدين من الزمن وصلت معدلات البطالة إلى نحو 45 % في الضفة و55 % في قطاع غزة المحاصر، والتهمت جرافات العدو آلاف البيوت الفلسطينية وصادرت نصف الضفة تقريباً.
هذا الواقع الجديد الذي أسس له اتفاق أوسلو، فتح الباب واسعاً أمام انتشار ظاهرة «المنظمات غير الحكومية» والتي أصبحت الضلع الثالث في بنية وهيكل الاقتصاد الفلسطيني المحلي، هذه الظاهرة المدمرة تسللت إلى الجسد الفلسطيني كالسرطان في مرحلة فقدت فيها الحركة الوطنية الفلسطينية عناصر قوتها، فأزاحتها وجلست مكانها، وهضمت آلاف الكادرات الوطنية في مؤسساتها الجديدة، وسلبت كل عناصر المناعة الوطنية والثقافية والفكرية وهمشت أطر العمل الأهلي والنقابي والنسوي ودجنت آلاف المناضلين والمناضلات في تشكيلاتها «المدنية» وحولتهم إلى جيش من الموظفين المستهلكين وآلة إعلامية مجانية لتبرير أوسلو والتكيف مع الواقع وشروطه.
أمام هذه الصورة وما أفرزته مرحلة أوسلو من نتائج وتداعيات وجدت الطبقات الشعبية الفلسطينية نفسها على قارعة الطريق، في الوطن والشتات وأصبحت خارج المشهد الوطني تقف في العراء. لقد خسرت ما اعتبرته أداتها الوطنية الجامعة «منظمة التحرير» لصالح السلطة وطبقة أوسلو ثم خسرت كل الاتحادات والمؤسسات الشعبية والنقابية التي اندثرت لصالح المنظمات الجديدة «أن جي أوز» وخسرت مشروعها السياسي التحرري، وترى اليوم كيف يجري تصفية كل الحقوق الوطنية التي بذلت في سبيل تحققها ولا تزال تبذل كل التضحيات.
إذا كانت البرجوازية الفلسطينية (الأقلية) وجدت مشروعها الخاص في تأسيس كيان أوسلو الجديد، يصبح السؤال الطبيعي اليوم: ما هو مشروع الطبقات الفلسطينية «الأكثرية الشعبية» داخل وخارج الوطن المحتل؟ وماذا تحتاج هذه الطبقات المفقرة والمهمشمة كي تتلمس طريقها وسلاحها لتصنع البديل الثوري الديموقراطي؟
إننا أمام طبقة فلسطينية من وكلاء الاستعمار وقد خانت الشعب، فإما أن نثور عليها، أو لنستعد لصفقة القرن... وهي قادمة!
* كاتب فلسطيني