أسابيع أربعة مرّت على تفجر انتفاضة القدس في وجه حكومة العدو الصهيوني التي واجهت فيها قوى الشعب الفلسطيني المجتمعية والروحية والسياسية، عملية «أسر واعتقال» المسجد الأقصى من خلال التحكم بمداخله.
هدفت حكومة الاحتلال إلى ضبط وإخضاع وإذلال جمهور المصلين، عبر «البوابات والكاميرات» التي تأتي في سياق خطتها في تحقيق ما تسعى إليه من «التقسيم المكاني والزماني» ما بين العرب المسلمين واليهود الصهاينة لدخول المسجد، خصوصاً أن الحرم بات الآن عملياً مقسّماً زمانياً بعدما أصبح دخول اليهود إليه والصلاة فيه سلوكاً لا بل «طقساً» يومياً، ما بين الساعة السابعة صباحاً والحادية عشرة قبل الظهر.
فجرت «عملية الأقصى» البطولية 14/7/2017 التي نفذها الشبان الثلاثة من عائلة «الجبارين» الآتين من مدينة أم الفحم المحتلة منذ عام 1948، والذين استشهدوا بعد اشتباك مسلح مع عناصر شرطة العدو (قُتل اثنان منهم) عند باب الأسباط، برميل البارود الذي كان جاهزاً للانفجار في كل يوم بسبب سياسة وإجراءات حكومة الغزاة المحتلين ضد الشعب الفلسطيني؛ بالإضافة إلى عمليات القمع والاعتقال، ومصادرة البيوت وهدمها (نحو 50 ألف منزل في المدينة المقدسة لا يوجد لها تصاريح ويمكن لسلطات المستعمرين أن تهدم ما تريد منها في الموعد الذي تحدده). أما المسجد الأقصى، فقد استمرت عمليات استباحته من قطعان المستعمرين وعساكر المحتل، خصوصاً بعد العملية الفدائية البطولية وقرار سلطات العدو إغلاق المسجد والعبث بكل محتوياته التي أكدها وزير الأوقاف الفلسطيني بقوله: «إن المسجد الأقصى تعرّض لأكثر من 140 اعتداءً على أيدي قوى الأمن الإسرائيلية، 116 منها وقعت ما بين 14 و27 من تموز الماضي». وكانت سلطات الاحتلال قد أغلقت الأقصى في الرابع عشر من تموز إغلاقاً تاماً وحاصرته، وعكفت خلال اليومين التاليين على تخريب وتفتيش دقيق لأركانه، محطّمةً وعابثةً بمقتنياته وتراثه ومخطوطاته... كما قام الاحتلال بقصّ الشجر واقتلاع الأحجار وسرقتها وتنفيذ عمليات المسح عند باب القطانين، وفي باب الأسباط.

الكف يقاوم المخرز

واجه المقدسيون، وعموم الشعب الفلسطيني في مختلف مواقعه، خصوصاً الجزء المحتل منذ عام 1948 (مدينة يافا مثالاً) إغلاق بوابات المسجد ورفضهم المعمد بالإصرار والإرادة والدم لدخولهم وأداء الصلاة عبر بوابات التفتيش الالكترونية أو بإخضاعهم للتصوير بالكاميرات، بوحدة مجتمعية وكفاحية فاجأت وأذهلت قادة العدو العسكريين، غادي أيزنكوت رئيس أركان جيش الغزاة المستعمرين، قال: «نحن أمام تصعيد مختلف كلياً عن هبة أكتوبر 2015. الآن نتكلم عن دافع إضافي لما كان عليه الوضع حينذاك، وهو الدافع الديني».

أكد الفلسطينيون أن منع تهويد الأقصى بند أساسي في جدول الأعمال الكفاحية

على الرغم من «الدافع الديني» ودوره التحريضي/ التحرري/ الكفاحي في مواجهة المستعمر لكونه أحد العوامل المشكلة للموقف الوطني والقومي من الغزو الاستعماري للوطن، الناتج عنه خضوع الأرض والشعب للاحتلال بكل ما يحمله من كوارث. وقد أثبت الجزء الأكبر من رجال الدين الإسلامي (المفتي وخطيب المسجد، كنموذجين) دوراً بارزاً في الحفاظ على الموقف الرافض للإغلاق ولشروط الدخول للصلاة، وفي تصليب وتثوير التوجه في مواجهات بضعة موظفين من رجال الدين (للأردن دور أساسي في توجههم)، حاولوا جس نبض قادة الهبة الوطنية، من قادة الحراك الشعبي ووجهاء المدينة وعلماء الدين، حين دعوا إلى «التعامل بعقلانية وحكمة وتفويت الفرصة على المحتل بمنعنا النهائي من دخول المسجد»، قائلين: «يكفي حصولنا على إزالة البوابات، وإبقاء الممرات الحديدية والكاميرات، فيمكننا التفاوض بشأن إزالتها لاحقاً ولكن لا يجوز أن نبقى خارج مسجدنا!». لكن جماهير الشعب المنتفض من خلال القيادات الميدانية استطاعت لجم هذا الدور وإسقاطه وتوجيه رسالة «واضحة المضمون» لمن يروج لمثل هذه التنازلات.

لا أنصاف حلول

أدى قرار القيادات الروحية (الإسلامية والمسيحية)، والشعبية والسياسية المدعومة والمنطلقة من وضع شعبي متحد، إلى رفض الخضوع لكل المساومات التي لعبت فيها قيادات سلطة المقاطعة في رام الله المستباحة، والنظام الأردني بالتنسيق والتفاهم مع نظام آل سعود والكيان الصهيوني، التي حاولت جميعها تجيير النصر لدورها المتواضع حيناً والمتواطئ مع العدو أحياناً كثيرة. إن الإصرار على إقامة الصلاة في الطرقات المؤدية للمسجد وعلى بواباته، أسقط من يد المستعمر وأدوات الضغط المحلية والإقليمية، ما يمكن أن يضع الشعب الفلسطيني على طريق التنازلات، لأن تلك القوى الشعبية، غير الخاضعة لأدوات التنسيق الأمني القمعية ــ مدينة القدس خارج سيطرتها وسلطتها الذاتية المحدودة ــ والمصرة على تحقيق هدفها، من دون تقديم أية تنازلات، حققت على الأرض، انتصارها في هذه الجولة من الحرب المفتوحة مع العدو. لقد استطاعت هذه الجماهير وقياداتها الوطنية والروحية المنبثقة من المعارك الشعبية المتتالية والتي راكمت عبر تجاربها وتضحياتها، خاصة، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2015 وإلى الآن، وعياً معرفياً، حصّنها كي لا يحقق المستعمر مايعمل لأجله: الذهاب إلى صراع/ حرب دينية. لقد أبدع المقدسيون في معركتهم بالدفاع عن المسجد الأقصى، الذي تحول من خلال المدافعين عنه، من مكان للصلاة وممارسة الشعائر الدينية فقط، إلى رمز وطني كجزء من الوطن المستعمر والخاضع لظلم وفاشية المحتل، أكدوا بأن منع تهويده بند أساسي في جدول الأعمال الكفاحية لتحرير الوطن المحتل من الغزاة المستعمرين. ولهذا، إن الصفة الدينية تأخذ أهميتها من خلال وجودها الطبيعي في المعركة الوطنية/ القومية أولاً، والسياسية ثانياً، من أجل تحرر الوطن وكرامة المواطن.

خاتمة

إن ما تحقق بفعل صمود وإرادة وتضحيات الشعب الفلسطيني في القدس وعموم نقاط الاشتباك مع العدو على امتداد الوطن المحتل تحت عنوان ومهمة محددة وهي «حرية الدخول والصلاة في المسجد الأقصى»، يجب ألا يغيب عن عقلنا للحظة، ونحن نعيش فرحة الانتصار في «معركة البوابات والكاميرات». إننا في حرب مفتوحة مع المستعمر الفاشي الذي يحتل الأرض الفلسطينية. لهذا، فإن دروس المعركة الكفاحية التي شهدها النصف الثاني من شهر تموز/ يوليو الفائت، يجب أن تشكل لنا جميعاً، إلهاماً وعِبَراً للجولات الآتية، وفي المقدمة منها: وحدة الشعب ووحدة الهدف تحت قيادة وطنية، صلبة، منبثقة من صفوف الجماهير، تستند إلى برنامج كفاحي مقاوم، وتمتلك المصداقية والشفافية والاستقلالية والصلابة في مواجهة العدو وأدواته.
*كاتب فلسطيني