هل تذكرون، حين كان دونالد ترامب مرشّحاً وحظوظه في الفوز قليلة، كيف كان موقف إعلام الخليج ومثقفيه منه، والسخرية والفوقية التي مارسوها عليه؟ «ليبرالي الخليج» ينتظر فرصةً كهذه ليثبت أنّه «جريء» و«حضاري»، ومثقّفٌ متنوّرٌ يحمل شعلة الحداثة ويتقزّز من أفعال ترامب وأقواله.
قلنا يومها إنّ ترامب سيستوعبهم، أنظمةً وأفراداً، مثلما استوعبهم جورج بوش قبله، وها هو دونالد ترامب يستعدّ لزيارة الخليج كمخلّصٍ فاتح، والنظام السّعودي، بحسب «بلومبرغ»، «يعدّ الثواني لزيارة الرئيس الأميركي» (قام السعوديون، حرفياً، بتصميم عدّادٍ الكتروني على موقع انترنت، يحصي الساعات والدقائق والثواني المتبقّية قبل تشريف الضيف الكبير). كان خياراً مناسباً لترامب أن يكون الخليج أوّل مقصدٍ أجنبيّ له كرئيس، فالحفاوة التي يلاقيها هناك لن يجدها في أيّ مكان آخر في العالم، حيث تنتظره مظاهرات الإحتجاج والسخرية والأسئلة الصعبة، أمّا في السّعودية، فهو يشعر أنّه في بيته، بل في مزرعته.

عطايا الأتباع

المشهد فعلاً سورياليّ، يذكّر بنصوصٍ بابليّة توصّف ملوكاً وأمراء وشيوخاً تابعين يركعون أمام حمورابي ويضعون أمامه الأعطية والهدايا والجزية. قبل أن تبدأ الزيارة حتّى، أعلن السعوديون عن حزمة «هدايا» بمئات مليارات الدولارات. أثناء زيارته للبيت الأبيض قبل أسابيع، قدّم سلمان عرض «باور بوينت» للرئيس الأميركي، كموظّفٍ في شركة يقدّم ملخّصاً لمديره، وتعهّد فيه باستثمار أكثر من 200 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي. لم يكتفِ ترامب بذلك بل طلب، بحسب مصادر غربيّة، بأن تذهب نسبةً كبيرةً من هذه الأموال الى ولاياتٍ تعاني الكساد، في الغرب الأوسط مثلاً، والى مشاريع البنية التحتية الأميركية التي لا تجد مستثمرين (كان الردّ بأن صندوق المملكة الاستثماري سيخصّص 40 مليار دولار لهذه المشاريع). الملفت هنا هو أنّ العرض الذي قدّمه بن سلمان في البيت الأبيض، والمقترحات المتضمنّة فيه، قد كتبها مستشارون أجانب من شركة «بوز الن هاميلتون»، وليس بيروقراطيين سعوديين حتّى.
تبعت ذلك أخبار عقود السّلاح، بأكثر من مئة مليار دولار لصفقة فورية، و300 مليار دولار على مدى السنوات العشر المقبلة. اللطيف هنا، ايضاً، هو أنّ المسؤولين الأميركيين يؤكّدون أنّ هذه الصفقات لن تؤثّر على «التفوّق النّوعي لاسرائيل على جيرانها» (كيف تنفق كلّ هذه الأموال وتشتري كلّ هذا السّلاح وتبقى في حالة «تخلّف نوعي»؟ هناك الكثير من الجّهد يجب أن يُبذل لكي تبقى في هذه الوضعية). بالمناسبة، لمن لا يعلم، هناك قانونٌ في الكونغرس الأميركي ــــ قانون ــــ يمنع المشرّعين في واشنطن من الموافقة على أيّ صفقة سلاحٍ في المنطقة تؤثّر على «التفوّق النوعي» لاسرائيل، وموافقتهم الزامية على كلّ عقد سلاحٍ فوق حجمٍ معيّن.
لو وضعنا جانباً الأخبار عن نية «آرامكو» إعلان عقودٍ ضخمةٍ، خلال القمّة ايضاً، تذهب غنيمتها هذه المرّة الى قطاع الطاقة الأميركي (وشركات مثل هاليبرتون وجنرال الكتريك وهيوز وشلومبيرجيه)، وجمعنا المبالغ أعلاه، فهي تساوي أكثر بقليل من 500 مليار دولار، أي ما يوازي، تقريباً، ما تبقّى من الاحتياط المالي السّعودي. خطّة محمد بن سلمان، على ما يبدو، هي في إخراج هذه الرساميل من بلاده وضخّها في الاقتصاد الأميركي، أو تقديمها لشركات السّلاح. الإعلام الأميركي واضحٌ في هذا الشأن، وهو لا يتكلّم على هذه الصفقات والعقود بوصفها جزءًا من خطّة تنموية أو استثمارية سعودية، بل كجهدٍ يقوده دونالد ترامب لخلق الوظائف في بلاده ــــ كما وعد في حملته الانتخابية ــــ وضخّ الأموال في القطاعات غير المرغوبة.
أمّا «الكرزة على قالب الحلوى» فهي، كما تنقل «وول ستريت جورنال»، عرضٌ خليجيّ بالتطبيع الكامل والرسمي مع اسرائيل، مقابل «وقفٍ جزئي للاستيطان» (أي مقابل لا شيء)، ويصبح الكيان الصهيوني، هكذا، حليفاً مكرّساً في «الناتو العربي» الذي يحلم به حكّام الخليج. المشكلة هي أنّ هذه العطايا تبدو وكأنّها في اتّجاه واحد: ترامب يقبل الهدايا ويشترط في سبل انفاقها، ثمّ يقول إنّه يريد من دول الخليج أن تساهم أكثر في تحمّل كلفة الأمن في المنطقة (أي مزيداً من الدّفع والابتزاز)، وماذا يعطيهم مقابل كلّ هذا الخنوع؟ بحسب «نيويورك تايمز»، التنازل الأساس لأميركا هو في أنّ ترامب «سيوافق» على بيع الأسلحة للسعودية. هم يتخيّلون أنّ ترامب سيعلن الحرب على أعدائهم في القمّة، ويخوض معاركهم، وهو لم يلتزم الّا بمقولاتٍ عامّة وفضفاضة من نوع أنّه سيكرّس لقاءاته في الرياض لمحاربة «داعش» و«مكافحة الكراهية والتطرّف» (هي تصلح كمزحة، مؤتمر لمكافحة الكراهية والتطرّف في الرّياض). على ذكر الموضوع، الرئيس السوداني عمر البشير، الذي أدانه الغرب بتهم ابادة جماعية ولاحقه بـ«العدالة الدولية» طويلاً، مدعو الى القمّة. المسألة هي أنّه في وسعك أن تقيم حفلةً، وأن تغري المدعوين بالهدايا وأن تسمّي الحدث ما تشاء، ولكنّ السؤال الذي لا يمكن تلافيه ــــ وسط الصّخب والخطب والموائد العامرة ــــ هو من سيدفع الحساب.

أن تسير الى الهاوية

حين تراجع تاريخ أميركا في الخليج، وعلاقتها مع شاه ايران مثلاً، تنتبه الى مقدار الاهتمام الذي كانت توليه الادارة الأميركية لحالة واستقرار الأنظمة التابعة، وحرص واشنطن على حمايتها من الانهيار، بل وحمايتها من نفسها (عن هذه المرحلة والجدالات التي دارت داخل الادارة الأميركية، أنصح مجدّداً بكتاب أندرو سكوت كوبر «ملوك النّفط»). منذ أيّام نيكسون، كانت وزارة التجارة الأميركية تحذّر من الوضع الاقتصادي في ايران، وأنّ الشّاه لو استمرّ على نهجه في الانفاق بلا حساب وعقد صفقات سلاحٍ هائلة فهو سيجد نفسه في أزمةٍ بعد سنوات، ولن تكفي مداخيل النفط لتمويل الدّولة، وسيخسر ساعتها الجميع ــــ النظام الايراني واميركا. كانت تقارير وزارة الخارجيّة تؤكّد أنّ الشاه يحتاج الى «لجم»، وأنّ له نظريات في الاقتصاد وتطوّر سعر النّفط هي، ببساطة، غير صحيحة وستوقعه في مأزق، وأنّه لا يمكنك أن تنفق على تنمية محمومة وبناء مشاريع فرعونيّة، وأن تكون الطبقة التي تنتمي اليها باذخة وفاسدة، وأن تبني جيشاً امبراطورياً في الوقت ذاته، وذلك كلّه من مصدر دخلً وحيد (في أواخر السبعينيات، أصبح ثمن الأسلحة التي تستوردها ايران من الغرب أكبر من كامل عائدات النفط الذي تصدّره). وصلت الأمور الى درجة أن وزارة الدفاع طالبت الرئيس بإقناع الشاه بتخفيف مشترياته العسكرية، لا لأسباب أمنية، بل حرصاً عليه وخوفاً من إفلاس الدّولة.
هذه العقليّة لا تجد لها أثراً في النّقاش الأميركي اليوم، سواء داخل الإدارة أم خارجها، بل هناك ما يشبه التواطوء على حلب البقرة حتّى تموت، ولا أحد لديه حافزٌ لإفساد «الحفلة». هي دورةٌ، من ترامب الذي يريد أموال السعوديين الى الشركات التي ترغب بعقودهم وصولاً الى الإعلام و«الخبراء» والمستشارين، الذين يستفيدون جميعاً من هذه المنظومة ولا مصلحة لهم في نقدها (أصبح الخليج بالنسبة الى شركات الاستشارات، مثل «ماكينزي» و«بوز» و«بوستون غروب»، أحد أهمّ الأسواق ذات الربحية العالية، والصحف الاقتصادية تلهث خلف مقابلة «حصرية» مع ابن سلمان، وهي تتعامل مع سياساته ومع «رؤيته» بـ«كرمٍ» وتسامح، وتبحث عن سببٍ لمدحه، بشكلٍ لا يمكن أن تمارسه مع الحكومات الغربية). لهذه الأسباب كلّها، لا أحد في الغرب يشير الى أنّ هذه الدولة، التي يفترض بها أن تنشّط الاقتصاد الأميركي، وأن تموّل شركات السّلاح، وأن تبني منظومةً أمنية اقليمية، هي دولةٌ واقعةٌ في عجزٍ وأزمةٍ اقتصادية، وهي تقتطع من رواتب موظفيها وتمهّد لسياسات «تقشّف» قاسية، والنموّ فيها أصبح يقارب الصّفر، فيما نظامها يعد بإخراج مئات مليارات الدولارات من اقتصاده ونقلها الى أميركا.

خاتمة

أصل المسألة ليس في أرقام العجز وحجم الميزانية وعدد السكّان فحسب، والجريمة الكبرى التي ارتكبها آل سعود ليست «الجريمة السياسية» التي يتمّ استعراضها في الرّياض ــــ التحوّل الى وكيلٍ للأميركي، والتآخي مع اسرائيل، وتأسيس حلف أنظمةٍ رجعية عميلة يقف علناً ضدّ شعوب المنطقة وسيادتها ــــ بل الجريمة التي افتعلها النظام في حقّ شعبه وإهداره لثروته على مدى عقود. وهذا، قبل أسعار النّفط، هو ما سيسبب الانهيار. كما يقول الباحث علي القادري، فإنّ التنمية الحقيقية لا تقتصر على إطعام شعبك وتطبيبه وجعله يستهلك من سوبرماركت ويركب سيّارات، فهذا سهلٌ (الى حين) في مجتمعٍ ريعيّ توزيعيّ. مقياس التنمية هو في أن تبني طبقة عاملة منتجة ومتعلّمة وتراكم مهارات ومعرفة علميّة، وأن تبني نظامك الاقتصادي بكامله (وحدود الاستيراد وقيمة العملة ووجهة استثمار الريع) حول هذا الهدف. هذا كان متاحاً نظرياً، بفضل عقودٍ من تدفّق الثروة النفطية في الخليج، ولكنّ الواقع اليوم هو أنّ الدولة بنت نظاماً يكون فيه أكثر من نصف الشّعب (الذي في سنّ العمل) خارج سوق العمل أصلاً؛ وأكثر المواطنين الذين يعملون هم في وظائف رسميّة لا تعلّم مهاراتٍ ولا تخلق انتاجاً. المشكلة ليست هنا فحسب، «التخلّف المقصود» هو أن تكون في بلدٍ فيه نسبة بطالةٍ عالية كهذه، ومشاركة قليلة في سوق الانتاج، فتستورد فوق ذلك ملايين العمّال الأجانب، لتبخّس من قيمة العمل أكثر وتضمن منع قيام اقتصادٍ وطنيّ (وأغلب العمّال الأجانب قليلو المهارة، رواتبهم منخفضة للغاية، ويتعرّضون لأسوأ أشكال المعاملة، ويرحّلون عن البلد بعد بضع سنوات ويأخذون خبرتهم معهم).
«داعش» ليست مجرّد انحرافٍ فقهيّ، ولا هي نتيجة طبيعيّة و«ضروريّة» للوهابيّة (في كلّ الأديان والمذاهب عناصر تكفيرية، ولكنّها لا تتحوّل الى حركات عنفٍ عدميّ وإبادة الّا في ظروفٍ «مناسبة»). هذه الايديولوجيا العدمية وجدت مرتعها المثالي في مكانٍ كالسّعوديّة، يكتب القادري، حيث يتجاور التخلّف الفائق مع الثراء الفاحش، وهي لا يمكن أن تخرج الّا من مكان كهذا، نظامه يشتري الطائرات الأميركية المقاتلة ويفتح البلد بلا حدودٍ على سلع العولمة والاستهلاك، ويدير «وحدات لمكافحة السّحر والشعوذة» في الآن ذاته.
للحفلة تأثيرٌ مسكرٌ على روّادها، وحكّام الخليج لا تسعهم فرحتهم بأنّ ترامب سيأتي، وهم مستعدّون للإيمان بالخصائص السحريّة للامبراطور (والمراهنة بمستقبلهم عليها)، فترامب ليس اوباما! ولكن، في العالم الحقيقي، وعلى بعد مئات الكيلومترات من الرّياض، كان اليمنيّون، في اليوم ذاته، ينشرون شريطاً يوثّق اقتحام مقاتليهم لمواقع «التحالف العربي» قرب المُخا، وإحراق عشرات المدرّعات الخليجية (بالوقود والولّاعات، كما أصبح التقليد اليمني، فهم يأخذون الذخائر والرشاشات من المدرّعات ثمّ يحرقونها). التناقض بين الصورتين، بين المُخا والرياض، صارخٌ وذو دلالة. في الشّريط المسجّل، كان مقاتلٌ يمنيّ شابّ، قد لا يزيد عمره على ستة عشر عاماً، يخاطب الملك سلمان بتحدٍّ (وبما يليق به) وخلفه مدرّعة اماراتية تحترق، ثمّ توجّه الى عبد الملك الحوثي، قائده، بنبرة الأمر: «ارفع رأسك! وايّاك أن تخفضه في يومٍ من الأيّام». لديك، على المقلب الآخر، الشيخ العربي يجثو أمام الامبراطور وهو يحمل الهدايا، فهل يعتقد ــــ حقّاً ــــ أنّ صوته سيكون الأعلى وأنّ المستقبل له؟