لم تكن هذه الانتخابات الرئاسية الفرنسية كسابقاتها؛ فهناك العديد من أوجه الاختلاف والتمايز، والتحديات التي تفرض نفسها في المستقبل، على الطبقة السياسية الفرنسية، وكذلك التساؤلات التي تحتاج الإجابة عليها بعض الوقت، بانتظار ما ستحمله الأيام أو الأسابيع المقبلة، ولحين نضوج الموقف، واتضاح الرؤية، والمشهد على مسرح الحياة السياسية والساحة الحزبية.
إن هذه الرئاسيات الفرنسية، على الرغم من كل قيل حول الأزمة التي تمرّ بها فرنسا، وهي أزمة سياسية ووطنية تطال النخب والسلطة والأحزاب ومؤسسات نظام الحكم، هي من الأهمية بمكان، ذلك أنها تؤسس لمرحلة سياسية جديدة، تتجه نحوها الجمهورية، بكامل عناصرها المركبة، والقيم والمبادئ والمفاهيم التي قامت عليها كل المنظومة السياسية والوطنية، واستندت إليها الطبقة السياسية التي كانت تمسك بالسلطة السياسية، طوال العقود الماضية. من هنا، لا يمكن التقليل أبداً من أهمية وتأثير هذه الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وإن كانت في مكان ما، تنقصها في الحقيقة، الشخصيات السياسية، الوازنة بل التاريخية، والبرامج والمشاريع والأفكار، والأحزاب التي يمكنها أن تنهض بالتجديد السياسي، وتضطلع بالدور الوطني، الذي تمليه ظروف هذه اللحظة أو المرحلة من تاريخ فرنسا.
منذ البداية، وطوال فترة الحملة الانتخابية، كانت واضحة للغاية السمة المميزة أو النكهة الخاصة لهذه الانتخابات الرئاسية، إن في الدورة الأولى، أو في الدورة الثانية، وذلك على مستوى الخطاب السياسي والانتخابي وطبيعته، كما على صعيد نوعية المرشحين السياسيين، وبخاصة المرشحين البارزين والأساسيين. في هذا الصدد، يمكننا أن نقول إن بعض الشعارات والتصريحات والمواقف، السياسية والانتخابية، قد تجاوزت حدود المألوف والمعتاد في تاريخ الحياة السياسية الفرنسية، ولا سيما في الحقبة الحديثة والمعاصرة منها، في إشارة إلى الجمهورية الفرنسية الخامسة. كما نستطيع أن نقول إن بعض المرشحين، إن لم يكن أكثرهم، بل معظمهم، ليس بمستوى الشخصيات التاريخية والقامات الوطنية التي شهدتها الحياة السياسية الفرنسية، وبرزت فيها، وخاضت غمار العملية الانتخابية، التي اعتادت وجود وحضور مثل هؤلاء الأشخاص الكبار، أمثال شارل ديغول وفرنسوا ميتران وغيرهما أيضاً.

المراجعة النقدية
الذاتية للطبقة
السياسية الفرنسية التقليدية ضرورةٌ ملحة
وهو الأمر الذي يقودنا، عند هذا الموضع بالتحديد، إلى التأكيد على ظاهرة الانحطاط، أو أقله حالة التراجع، في الخطاب السياسي والانتخابي الفرنسي، وفي الطبقة السياسية الفرنسية التقليدية، كما في داخل نادي رجالات الدولة والسياسة الفرنسيين، طوال السنوات الماضية وفي الفترة الأخيرة.
لقد كان فوز إيمانويل ماكرون في الرئاسة الفرنسية، متوقعاً ومنتظراً، ذلك أن الظروف والعوامل الداخلية، وحتى الخارجية ذات الصلة، كانت تشير إلى تقدمه واقترابه من قصر الإيليزيه لاعتبارات ذاتية وموضوعية في الوقت نفسه. ثمة من يرى أنه شخصية عامة ذكية للغاية، وهذا صحيح، وثمة من يقول إنه شخص خطير، وليس في غاية الذكاء فحسب، وهذا صحيح أيضاً، بدليل ما حققه في مدة قصيرة! ولكنه، في الحقيقة، أفاد من الواقع السياسي والانتخابي الفرنسي، ولقي الدعم المطلوب، كل الدعم الذي يحتاج إليه؛ وقد تقاطعت من حوله، وعنده، واحتشدت خلفه، أو أقله بجانبه، مجموعة وازنة من الشخصيات والأحزاب والمصالح السياسية، من اليمين واليسار الفرنسيين على حد سواء، الأمر الذي سهل وصوله إلى سدة الرئاسة الفرنسية في وقت قياسي. إذ يجب ألا ننسى أنه لا يتمتع بالخبرة السياسية، ولا يملك حتى التجربة السياسية؛ وقد كان، حتى الأمس القريب، مجرد مصرفي شاب لا يتعاطى السياسة، طموحه كبير، وهو يعمل ويتحرك، في الأساس، خارج المؤسسة السياسية الرسمية ونادي الأحزاب السياسية التقليدية، حتى أن دخوله منظومة السلطة السياسية، بتسلمه مقاليد الحقيبة الوزارية التي أسندت إليه، لم يكن منذ زمن بعيد، ولم يدم لوقت طويل أيضاً... لكل ما تقدم، فإن صعوده وحراكه السياسيين قد يبقيان مثيرين للجدل، ويدعوان إلى التساؤل حول بعض الأمور الغامضة، والتي تتصل ببعض الارتباطات والتأييد والمؤازرة.
أما بالنسبة إلى مارين لوبن، التي خسرت الانتخابات الرئاسية الفرنسية لكنها تجد نفسها خرجت منتصرة من هذه الحملة الانتخابية، حيث أنها تمكنت من تسجيل تقدم كبير، في عدد ونسبة المقترعين المؤيدين لها، كمرشحة للجبهة الوطنية، والتي تمثل اليمين المتطرف، فهي ربما تكون محقة بعض الشيء، وهي ربما كانت أيضاً تعلم مسبقاً بأنها لن تتمكن، من الفوز. لكنها راهنت على هذا الإنجاز الذي تمكنت من تحقيقه بالانتقال من الدورة الأولى إلى الدورة الثانية في عملية التصفية وفي خوض غمار هذه المنافسة السياسية والانتخابية حتى النهاية، دونما تراجع أو تردد، وإنما بثقة وحزم ووتيرة متصاعدة. وأكدت لوبن أن هذه الجبهة الوطنية التي تقودها، إنما هي في حالة صعود وتقدم مستمرين ومتواصلين، على الرغم من الحملة الواسعة والشرسة لمواجهتها، ولمنع تمددها، واتساع رقعة انتشارها ونفوذها، وربما الحؤول دون دخولها إلى القصر الرئاسي، بصرف النظر عن مدى صحة وإمكانية حصول هذه الفرضية، إلا أنها كانت قائمة، ومطروحة للنقاش السياسي والتداول الشعبي في الشارع، وفي الإعلام والصحافة، ولدى الرأي العام على المستويين الوطني والدولي. لقد اجتازت مارين لوبن، بخياراتها وطروحاتها وشعاراتها، الدورة الأولى، وكان ذلك على حساب الجمهوريين والاشتراكيين، في اليمين واليسار؛ وانتقلت إلى الدورة الثانية، لتخرج منها منتصرة وتعتبر أنها أصبحت تمثل المعارضة السياسية الأولى وتعلن ذلك، في محاولة لتحسين شروطها في عملية التفاوض السياسي معها، وتثبيت موقعها على الخارطة الوطنية للقوى السياسية الفرنسية، واستكمال هذه الحملة أو العملية السياسية بالتصدي لاحقاً لتحدي الانتخابات التشريعية في الأسابيع القليلة المقبلة.
في التقييم الأولي للعهد الرئاسي الفرنسي الجديد ولمستقبل مجمل الحياة السياسية والعامة في الجمهورية الفرنسية، فإن حالة الترقب الشعبي والرصد السياسي لمرحلة ما بعد هذه الانتخابات هي من الإرهاصات الأساسية والإفرازات الطبيعية لهذه العملية، والمسار الذي سلكته الخاص والفريد بشكله ومضمونه. بالإضافة إلى ما تقدم، يمكننا أن نشير أيضاً إلى مسألة الاضطراب في الرؤية السياسية، وبالتالي حالة الضبابية في المشهد السياسي، وذلك لجهة خارطة التحالفات السياسية المستقبلية، وكيفية تشكيل الغالبية السياسية التي ستحكم، وصورة المعادلة السياسية والتوازن الوطني، بل وربما العقد الاجتماعي نفسه. كما لا يمكننا أن ننكر حالة الريبة والحذر لدى الرأي العام الفرنسي، سواء كان ذلك أثناء الحملة الانتخابية أو بعد انتهائها؛ والمقصود الريبة والحذر لدى النظر والتطلع إلى المستقبل السياسي لفرنسا وللجمهورية الخامسة، القائمة حتى تاريخه؛ هذا ولا يسعنا إلا أن نتوقف أمام حقيقة التململ بين الناس، وفي صفوف المكلفين الفرنسيين، في المزاج الانتخابي والسياسي للشعب. من الواضح أن التموضع والاصطفاف والانقسام على الساحة السياسية الفرنسية هو حاد للغاية، ويتخذ منحى تصاعديّاً، بين أنصار تيار النزعة القومية المتطرفة، والانطوائية المنغلقة، وأنصار تيار العولمة النيوليبرالية والرأسمالية «المتوحشة»، كما بات يُعرف، والانفتاح والتحرير والتزام فكرة المشروع الأوروبي، وربما «غير ذلك».
على أية حال، تبقى المراجعة النقدية الذاتية للطبقة السياسية الفرنسية التقليدية ضرورة ملحة، ولازمة لا بد منها، في ضوء ما تمخضت عنه الرئاسيات الفرنسية، ذات النكهة الخاصة، في دورتيها الأولى والثانية. وذلك على خلفية خروج أو استبعاد الأحزاب السياسية التقليدية، من دائرة المنافسة الانتخابية، وفي إطار المشهد الانتخابي، وربما تراجع حضورها وانحسار دورها على حلبة الصراع السياسي، وفي المشهد السياسي كله. لقد بدا بالفعل الاستقطاب السياسي، إبان هذه الحملة الانتخابية، مختلفاً ومغايراً؛ وقد فشلت الطبقة السياسية التقليدية، بمعنى مجموع تلك الأحزاب السياسية التقليدية، في استمالة الرأي العام الفرنسي والتأثير في اتجاهاته في محاولة لكسب تأييده. في الواقع، يحيلنا مثل هذا الفشل الكبير والفاضح على الأزمة الكبيرة والمبطنة، المفتوحة على كل الاحتمالات، التي تشهدها الجمهورية الخامسة الفرنسية، لناحية الممارسة السياسية، كما السلوك السياسي، وكذلك على صعيد مؤسسة الحكم الرسمية، بل بنية المنظومة السياسية بكاملها. فالحياة السياسية الفرنسية تشهد، في الوقت الراهن، أزمة ثقة، عميقة وحادة، أو لنقل حالة انعدام الثقة، بين الحكام والسياسيين من جهة، والمواطنين المكلفين والناس العاديين من جهة أخرى. إن هذه الأزمة البنيوية والسلوكية تعني، بالتأكيد، فشل الخطاب السياسي الرسمي في استنهاض الواقع الفرنسي، السياسي والاجتماعي، والاقتصادي أيضاً، وفي استجماع القوى الفرنسية، على ضوء العقيدة الفرنسية، المتجسدة في قيم الجمهورية؛ كما تفيد عن تعثر، بل تخبط، كل النخب السياسية الفرنسية، من كافة الأحزاب والتيارات السياسية، وضعف قدرتها على التعبئة والحشد والتوجيه، لغياب القيادة السياسية، التاريخية والوطنية.
مما لا شك فيه أن هذه الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما سبقها وما تبعها، شكلت محطة مفصلية وتاريخية في حياة الجمهورية الفرنسية؛ وهي ربما تؤشر لتطورات ومستجدات وتحولات في المشهد السياسي الفرنسي برمته. قد يكون من الصعب التنبؤ أو التكهن بما سوف تؤول إليه الأوضاع والأحوال، بفعل الرؤية السياسية المضطربة، وضمن إطار الخارطة السياسية الملتبسة، وحيث أن الطبقة السياسية متخبطة، والرئيس المنتخب يقف على عتبة قصره الرئاسي، ينتظر الدخول إليه، وينتظره الكثير من المشاكل والصعوبات والملفات العالقة، الاقتصادية والاجتماعية منها، وكذلك السياسية والأمنية وسواها. هناك من قال إنه سيحكم ويدير الأمور بطريقة غير «مؤدلجة»، وقد يكون محقّاً، وربما يكون ذلك صحيحاً أيضاً؛ فالرئيس العتيد يَعد ويُعدّ، ويحسب ويوازن بطريقة دقيقة، لكن الأمور لم تتضح بعد بالكامل. إلا أنه من الواضح أن الجمهورية الفرنسية الخامسة على المحك، وربما تكون، بصيغتها وبشكلها التقليديين، قد انتهت؛ فلطالما نادى بعض الفرنسيين بالجمهورية السادسة، ورفعوا شعارها ولواء الدفاع عن مثل هذا الطرح الوطني بقصد التحديث السياسي؛ ولكنها ستكون انتهت، أو شارفت على ذلك، بطريقة دراماتيكية، من دون أن يكون البديل الذي يلي جاهزاً وناضجاً بعد!
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية