في التاريخ الأوروبي الحديث، هناك أسرتان ملكيتان عادتا إلى العرش بعد ثورتين داميتين: آل ستيوارت في إنكلترا (1660-1688) وآل بوربون في فرنسا (1815-1830). تولى تشارلز الثاني عام 1660 العرش بعد 11 عاماً من قطع الثورة لرأس والده الملك تشارلز الأول. بين هذين التاريخين عاش هو في القصر الملكي الفرنسي حيث كانت أخته هنرييت متزوجة من دوق أورليان شقيق الملك لويس الرابع عشر.
كان معجباً بالثقافة ونمط الحياة الفرنسيين، وبرغم كون ملك إنكلترا هو رأس الكنيسة الأنجليكانية منذ انشقاقها عن كنيسة روما عام 1534 فإن تشارلز الثاني كان معتنقاً سرياً للكاثوليكية وكان يقبض راتباً شهرياً خاصاً بعد عودته إلى العرش من لويس الرابع عشر وفي القصر الملكي في لندن كان يتكلم بالفرنسية أكثر من الإنكليزية. تحالف مع فرنسا، حاملة لواء الكثلكة، في حربها على الجمهورية الهولندية. عندما تولى أخوه جيمس الثاني عام 1685 العرش فإن تبعيته لباريس كانت أكثر من سلفه الراحل، وقد أدت محاولاته لكثلكة إنكلترا من جديد، وهو الكاثوليكي الصريح، إلى ثورة 1688-1689 التي اختلطت فيها مشاعر الإنكليز القومية مع العداء للكاثوليكية ومع العداء للنجم الصاعد في السماء الأوروبية أي الملك لويس الرابع عشر في قصر فرساي في باريس. اختلطت الأمور الثلاثة مع السعي لسلطة البرلمان وجعل الملك «يملك ولا يحكم»، فيما كان جيمس الثاني متحالفاً مع لويس الرابع عشر صاحب كلمة: «أنا الدولة». ظل الملك الفرنسي يسعى لعودة جيمس الثاني حتى عقد معاهدة 1697 عندما اعترف بوليام الثالث ملكاً على إنكلترا مع إقرار بالتخلي عن دعم الملك الإنكليزي السابق. مع هزيمة نابليون بونابرت، عاد آل بوربون إلى الحكم في باريس عام 1815على رؤوس حراب الأجنبي: البريطاني ـ الروسي ـ النمساوي ـ البروسي بعد ربع قرن من الثورة الفرنسية التي اقتلعت رياحها عرشهم. كانت تبعيتهم للأجنبي والطريقة التي عادوا بها إلى قصر فرساي، إضافة إلى ما قيل عنهم: «لم ينسوا شيئاً، لم يغفروا شيئاً، لم يتعلموا شيئاً»، قد أدت، كعوامل مجتمعة، للإطاحة بهم ثانية في ثورة تموز 1830.
تعطي التجربة الأوروبية محددات للعملية السياسية الداخلية: أطراف اللعبة محليون حصراً، وممنوع الاستعانة بالخارج من أجل حسم أو تمييل ميزان القوى الداخلي في أثناء النزاعات أوالصراعات المحلية، سواء من السلطة القائمة أو من قوى المعارضة. الداخل والخارج، هنا، يتحددان من خلال الحدود الجغرافية للدولة المحلية القائمة وقت النزاع أوالصراع. في تلك المحددات يمكن للسلطة القائمة طلب معونة دولة أجنبية في حالة تعرض البلاد لغزو خارجي (اليونان عام 1940 عندما طلبت المعونة البريطانية ضد غزو موسوليني) وليس في حال نزاع داخلي تكون هي أحد طرفيه. تعتبر من المحرمات التي تصل إلى الخيانة العظمى، عملية التعامل مع الأجنبي الغازي والمحتل (تجربة جمهورية فيشي برئاسة الماريشال بيتان في فرنسا المحتلة من الألمان بين عامي 1940 ـ 1944)، وهو ما يلامس حدود الفعل الجنائي الجرمي ولا يمت بصلة للفعل السياسي في حدوده المعروفة والمتفق عليها.

في التاريخ الغربي الحديث مثّلت نزعة الاستعانة بالخارج شذوذاً

في التجربة السياسية العربية الحديثة هناك حالات كثيرة من نزعة الاستعانة بالخارج: حاكم استعان بالخارج ضد أطراف من السلطة تحالفت مع قوى اجتماعية ضده: الخديوي توفيق عام 1882 لما استجلب القوات البريطانية ضد وزير الحربية أحمد عرابي والقوى الاجتماعية المصرية الواقفة وراءه وهو ما كان بداية الاحتلال البريطاني لمصر. الهاشميون في بغداد عام 1941 الذين استعانوا بلندن من أجل الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني وعادوا إلى القصر الملكي على ظهر الدبابات البريطانية. جعفر النميري وأفراد سلطته الذين استعانوا بالسادات والقذافي ضد انقلاب 19 تموز 1971 بقيادة الرائد هاشم العطا المدعوم من الحزب الشيوعي السوداني حتى عودته إلى السلطة بعد ثلاثة أيام.
أحزاب أو قوى سياسية أو تنظيمات ذات طابع إثني حملت السلاح ضد السلطة المركزية مطالبة بتحقيق الانفصال أو الحكم الذاتي أو الفيدرالية واتجهت من أجل تحقيق أهدافها للاستعانة بالخارج الدولي أوالإقليمي أو كليهما معاً: حركة التمرد الجنوبية بالسودان بين عامي 1955 و1972 ثم حركة جون غارانغ بدءاً من عام 1983. تمرّد الملا مصطفى البرزاني بين عامي 1961 و1970 ثم بين عامي 1974 و1975 في الشمال الكردي العراقي وبعده مسعود البرزاني وجلال طالباني في الثمانينيات والتسعينيات. حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري بين عامي 2014 و2017. انقلابات عسكرية أو محاولات انقلابية فاشلة استعانت بالخارج (انقلاب الانفصال السوري يوم 28 أيلول 1961 المدعوم من بريطانيا. انقلاب حزب البعث في بغداد يوم 8 شباط 1963 المدعوم من واشنطن والقاهرة معاً ضد سلطة عبد الكريم قاسم المتحالف مع الحزب الشيوعي، خطة الانقلاب العسكري ضد حكم حزب البعث ببغداد التي كشفت قبل وقوعها بالشهر الأول من عام 1970 وكانت مدعومة من شاه إيران). أحد أطراف نزاع داخلي يستعين بالعدو الخارجي لدولته من أجل منع تمييل الموازين لصالح خصمه ومن أجل كسر التوازن وتمييله لجانبه (بشير الجميل بين عامي 1978 و1982). معارضة سياسية تتعاون مع الأجنبي الغازي والمحتل (عراق 2002 ـ 2003). معارضة سياسية تتجه نحو المراهنة على الرياح الخارجية ضد السلطة القائمة من أجل تحقيق التغيير الداخلي («إعلان دمشق» في عام 2005). معارضة سياسية أثناء نزاع وأزمة داخليين تنحو إلى الاستعانة بالخارج من أجل الإطاحة بالسلطة القائمة («المجلس الوطني السوري» في عامي2011 و2012 و«الائتلاف الوطني السوري» منذ 2012). فصائل عسكرية معارضة تحمل السلاح في أثناء نزاع وأزمة داخليين تتجه إلى الاستعانة بالخارج من أجل مساعدتها بالإطاحة أو هزيمة أو تمييل موازين القوى ضد السلطة القائمة (سوريا 2012 ـ 2017). إعطاء قوات أجنبية مطارات عسكرية من قبل مليشيا محلية في مناطق تسيطر عليها الأخيرة من أجل المساعدة في إنشاء توازنات عسكرية ـ سياسية لصالحها في المشهد المحلي العام الراهن والمستقبلي قوات سوريا الديمقراطية في عامي 2016 و2017.
إذا أردنا التكثيف: في التاريخ الغربي الحديث مثَلت نزعة الاستعانة بالخارج شذوذاً، بينما كانت في التاريخ العربي الحديث قوية وذات منحى رئيسي في سياق الحركة العامة. انتشرت بقوة في مجتمعات عانت من حالة اللااندماج الاجتماعي مثل السودان ولبنان والعراق، أو من انفجار داخلي مثل سوريا 2011 ـ 2012. وجدت هذه النزعة بقوة عند أحزاب أقليات دينية وطائفية وإثنية كانت قوية التمثيل لوسطها الاجتماعي الأقلوي الخاص. انتشرت هذه النزعة بقوة عند تنظيمات «الإسلام السياسي» بفرعيه الأصولي الإخواني والسلفي الجهادي. وجدت هذه النزعة بقوة طاغية عند ماركسيين تحولوا إلى الليبرالية في مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي أواخر عام 1991. ترافقت هذه النزعة عند أغلب معتنقيها العرب مع نبذ «العروبة» والاتجاه نحو النظر إلى المجتمع «بوصفه مكوناً من مكونات دينية وطائفية وإثنية» وليس بوصفه مكوناً من «مواطنين متساوين بمعزل عن دينهم وطائفتهم وإثنيتهم». عند جميع هؤلاء كانت «النزعة الثأرية» قوية الحدة وكان هناك عدم أخذ بنصيحة لينين: «الحقد مرشد سيئ في السياسة».
* كاتب سوري