لقد أمسى الفساد السياسي في لبنان، من دون مبالغة أو مكابرة، ظاهرة مستشرية ومستفحلة، وحالة متجذرة ومتأصلة في صلب النظام السياسي وفي كنف الحياة السياسية. وهو ليس بظاهرة أو حالة مستجدة وحديثة النشأة، إذ يضرب، بجذوره وفروعه، وإرهاصاته ومظاهره، وأسبابه ونتائجه، تاريخ البلد الحديث والمعاصر.
وقد طبع مسار تطور نظام الحكم السياسي، ومؤسساته، كما السلطة أو الطبقة السياسية، منذ نشأته وحتى حينه، إلا أنه كان يطفو على السطح ويظهر للعين المجردة بشكل فاقع وفاضح في بعض الأوقات والمراحل، في حين يبقى مستتراً، أو غير معلن وغير مرئي، في بعض الأوقات أو الأحيان الأخرى، أو لنقل إنه يبقى مغطى ومقنعاً، خارج دائرة الأضواء والنقاش السياسي والتظهير في الصحافة والإعلام. في كل الأحوال، يبقى الفساد السياسي، في كل تلك الظروف، السمة التي تغلب على النظام السياسي والحياة السياسية في لبنان، والمعضلة أو المشكلة الرئيسية والأساسية، البنيوية والسلوكية، شأنه في ذلك شأن الطائفية السياسية التي تقرنه، وتذكيه، وتستقي منه بعض عوامل الديمومة والاستمرار.
لا شك في أن استحداث وزارة دولة لمكافحة الفساد السياسي هو خطوة لافتة، بل إيجابية، أو لنقل إنه يبدو كذلك، إذ لا يمكن إلا أن ننظر إلى هذا الأمر، من هذه الزاوية، وعلى هذا الأساس، حتى تاريخه على الأقل، وبالتالي أن نراه هكذا، كما أنه يُفترض أن يكون كذلك. هي خطوة يمكن البناء عليها بالتأكيد، وينبغي الوقوف عندها بطبيعة الحال، ولكن شريطة ألا تكون هذه الفكرة أو المبادرة مجرد خطوة فولكلورية، شكلية أو ظرفية، ومن باب الدعاية والترويج السياسيّين والإعلاميّين.
إلا أن هذه الخطوة وحدها ليست كافية البتة؛ ربما تكون خجولة، أو ناقصة وغير كاملة ومكتملة، أو انها لا تعبر عن رؤية بعيدة المدى، ولا تتخذ صورة أو شكل الخيار الاستراتيجي، وتبقى محدودة التأثير أو الأثر السياسي وضعيفة الفاعلية وقليلة الجدوى، ولا تكون، بالتالي، بتلك الأهمية السياسية، المُنتظرة أو حتى المُفترضة. فالمطلوب أن تتحول مكافحة الفساد السياسي، أو على الأقل محاربته، إلى مؤسسة تضمن وتكفل استمرار مثل هذه السياسة وهذا الاتجاه أو الخيار السياسي؛ والمقصود، بطبيعة الحال، هو مؤسسة سياسية وطنية، ومؤسسة رسمية حكومية، تجسد فلسفة الدولة وسياسة الحكومة وتَوجُّه أو اتجاه ساستها ورجالاتها من أهل الحكم، أو السلطة السياسية والموالاة، وكذلك المعارضة على حد سواء.
ضمن هذا الإطار المرسوم، وتحت هذا السقف المحدد، يمكن أن تشارك مؤسسات وهيئات المجتمع المدني والقطاع الخاص والمجتمع الأهلي وأن تساهم في تنفيذ هذا المشروع الوطني الكبير، ذلك أن محاربة الفساد السياسي والحدّ منه ومكافحته مقصد أو هدف وطني ينبغي العمل على تحقيقه، بل النضال والكفاح من أجله؛ وهو يعني كافة فئات الشعب وجميع شرائح المجتمع السياسي وكل الناس في البلد وداخل الدولة. وعليه، ربما تكون هذه المحاولة أو هذه المبادرة لاستحداث وزارة الدولة لشؤون مكافحة الفساد، الفساد السياسي، وما يتمخض أو يتفرع منه، أو حتى مجرد هذه الفكرة لا أكثر، وهي تشكل خطوة محددة، وتمثل مرحلة معينة، ضمن مسار طويل من الإصلاح السياسي، ربما تكون أحد المداخل أو الممرات لهذا الأخير؛ ونجاح هذه التجربة يستتبع المزيد من الخطوات، وسقوطها يعني الفشل!

إن الفساد السياسي هو مسؤولية الطبقة السياسية في هذا البلد

في الواقع، الفساد السياسي جزء لا يتجزأ من ثقافة الناس، كل الناس، والمقصود بها الثقافة السائدة في داخل المجتمع، وليس المجتمع السياسي وحده، بل بين الناس العاديين في الشارع. هذا الأمر هو، بكل صراحة، في غاية السوء والخطورة، ذلك أنه يدلل على حجم الأزمة التي يرزح تحتها البلد، ويعكس مقدار الهوة والدرك اللذين بلغتهما الدولة فيه، وكذلك الناس، وليس المؤسسات فحسب. هذا هو الواقع، بينما يجب أن تكون مكافحة أو محاربة الفساد السياسي الجزء أو العنصر الأساسي من الثقافة السياسية في البلد، ومن العمل والسلوك السياسيّين، ومن الحضور والحراك الشعبيّين.
والفساد السياسي، بحد ذاته، هو كلّ لا يتجزأ أيضاً، ولا ينقسم أو ينفصل حتى، إذ لا يمكن القبول به أو غض الطرف والتغاضي عنه تارة، وفضحه والمجاهرة به والتصويب إليه تارة أخرى؛ فالفساد هو نفسه، المشكلة المستشرية والمستفحلة، والمزمنة والمستعصية، أينما يكون وحيثما يبرز، سواء الفساد السياسي، أو ما يتمخض منه ويتفرع عنه من أشكال وأبعاد أخرى للفساد «النمطي»، في الممارسة والسلوك، وفي الفكر والثقافة والذهنية، أو العقلية، كما الهيكلية المؤسسية، في إشارة إلى الفساد الإداري والمالي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي في نظام الحكم والإدارة وداخل البنى المؤسسية، وفي الطبقتين السياسية والحاكمة والنخب الفكرية والمثقفة والكادرات الإدارية، وغير ذلك كله.
إن الفساد السياسي هو مسؤولية الطبقة السياسية في هذا البلد. هذا صحيح بالتأكيد، ومن دون أدنى شك؛ ولكنه ليس مسؤولية السياسيين وحدهم فحسب، بل إنه مسؤولية الجميع، من دون استثناء أو تمييز، وإن كان مقدار هذه المسؤولية يتفاوت، وكذلك طبيعتها تختلف أيضاً، الوطنية والسياسية والقانونية والمعنوية. فليست هذه المسؤولية هي نفسها على الجميع بالتأكيد. هذه هي الحقيقة؛ فالكل مشترك وضالع، أو حتى مرتكب، أو ربما متخاذل، أو حتى «مسكين» مستكين؛ والجميع يتحمّل المسؤولية.
فالساسة هم الذين أفسدوا واستحكموا. هذا صحيح، ولا جدال، ولا حتى نقاش، في ذلك. ولكن الناس، في المقابل، قد تخاذلوا، بل تواطؤوا على بلدهم ووطنهم، وانغمسوا في هذا الأمر؛ فقد استكانوا واستسلموا وانقادوا وأذعنوا، حين صمتوا وسكتوا وما نطقوا بكلمة سواء، كشيطان أبكم، في حضرة سلطان جائر؛ ولم يسائلوا، ولم يحاسبوا، ثم جاؤوا بعدها، بكل وقاحة، وربما بكل حماقة، ليشكوا أمرهم، ويشتكوا ظلمهم، ويطالبوا بحقهم في حياة كريمة وعيش رغيد في دولة صالحة أو «مدينة فاضلة»! فإما أنهم قد نسوا، أو ربما قد تناسوا، ما قد فعلوا وارتكبوا، وحينها، يا لحماقتهم وقبح جريمتهم؛ وإما أنهم قد اشتبهوا في أنهم هم من اختاروا، ومن ثم ساروا في ما قد اختاروا، فبئس الخيار والاختيار، بل يا لهول الجريمة التي تُقترف، ومن قبل الجميع، بهذا البلد وهذا الوطن، وفي الإنسان الذي يعيش على أرضه وترابه! والأمر سيان في كلتا الحالتين. فالناس، إما أنهم يجهلون، وهم لا يعلمون، وتلك مصيبة؛ وإما أنهم يدركون، ويعرفون، ولكنهم لا ينطقون، ولا يتحدثون، وتلك مصيبة أكبر. فهم لا يستحقون وطنهم والعيش فيه، وهم أصبحوا فيه غرباء، لا حول ولا قوة لهم، ولا عزة ولا كرامة. ثم بعدها تراهم يسألون ماذا عساهم يفعلون؟ هذا هو لسان حال اللبنانيين، جميعهم، المواطنين المكلفين، أي الناس العاديين، وكذلك السياسيين، سادة الهيكل، من أهل السلطة وشهوة الحكم وأرباب المال والأعمال.
الفساد السياسي ليس قدر اللبنانيين، ولا يمكن أن يكون كذلك. هو واقع مرير، وسيّئ للغاية، يلقي بثقله على الحياة السياسية في البلد، بل الحياة الوطنية، بكافة مجالاتها وميادينها ومرافقها، العامة والخاصة، ويضرب عجلة الديمقراطية وكامل العملية السياسية، ويكبح سير عمل المؤسسات السياسية والدستورية والمؤسسات العامة. لكنه ليس قدرنا، وليس أمراً محتوماً، أو إنه يمكن ألا يكون كذلك، مهما بلغت الأمور، ومهما ساءت الأحوال والأوضاع، وكثرت الثغر وتراكمت المشاكل وتفاقمت الأزمات، لا الأزمة. وربما يكون من «طبائع العمران»، في التاريخ السياسي، وفي الأنظمة السياسية، أن يؤدي ظهور الفساد السياسي، في حالة استفحاله واستشرائه، إلى ترهل الدولة، كل الدولة ومؤسساتها، إلا أنه ليس من «الحتمية التاريخية» استمرار الفساد السياسي وتأصله وتجذره في الحياة السياسية والدولة والمجتمع السياسي.
فإن كان من في الحكم من هذه الطبقة السياسية، ويقبض بشدة وبقوة، ويحكم قبضته، على السلطة السياسية في الدولة، من السياسيين اللبنانيين، هم مسؤولين، منذ البداية، عن حصول الفساد السياسي، أو ظهوره، فإن الناس العاديين في الشارع، وحيثما كانوا أو وجدوا، كمواطنين لبنانيين، هم يتمتعون بالحقوق، ويضطلعون بالواجبات، ويتحملونها، أو بالأحرى يُفترض ذلك، هم مسؤولون عن استمرار مثل هذا الفساد السياسي، بل استفحاله إلى هذا الحد، واستشرائه بهذا الشكل؛ ومسؤولية هؤلاء المواطنين اللبنانيين، بل جميعهم، لا تقلّ، في الواقع، أهمية وخطورة عن المسؤولية التي تقع على كاهل أولئك الحكام والسياسيين اللبنانيين، وكل ما يُحكى ويُقال، عدا ذلك، هو، في الحقيقة، كذب ورياء ومراوغة، فكما تكونون يُولّى عليكم، وليتحمّل كلّ منّا مسؤولياته السياسية والتاريخية والوطنية!
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية