بعد خمسة «فيتوات» روسية بشأن الموضوع السوري في مجلس الأمن، وخمس سنوات من الدعم العسكري والسياسي والمالي لدمشق، وعام من التدخل العسكري المباشر الذي تحول رسمياً إلى وجود دائم بموافقة مجلس الدوما (بالإجماع) على الاتفاقية الروسية – السورية حول القاعدة الدائمة في طرطوس... يتساءل الكثير من المراقبين (أفراداً ودولاً) عن الأسباب التي تدفع بروسيا إلى مثل هذا التمسك غير المسبوق بدورها الراهن في سورية! - الدور الذي يحمّل الدولة الروسية أعباء عسكرية ومالية واقتصادية كبيرة جداً.
- الدور الذي يعرضها لضغوط متعددة المصادر على الصعيد الدولي والإقليمي.
- الدور الذي رفضت موسكو من أجله إغراءات لا حدود لها من قبل الدول النفطية العربية، عبّرت عن نفسها بمحاولات سرية وعلنية قام بها معظم قادة تلك الدول وفي مقدمتهم أمير قطر السابق حمد آل ثاني ورئيس وزرائه حمد بن جاسم، ثم مدير المخابرات السعودي الأمير بندر بن سلطان وبعده ولي ولي العهد محمد بن سلمان وغيرهم!
يدرك الروس أن الانتصار العسكري لا يمكن أن يشكّل حلاً لجوهر المشكلة

ما من شك في أن لهذا الموقف الروسي المتصلب والمكلف، أسباباً استراتيجية تستحق (من وجهة نظر الكرملين) كل هذه التكاليف والأعباء السياسية والعسكرية والاقتصادية. فما هي هذه الأسباب؟
إن الحضور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، كان على الدوام هدفاً كبيراً للكرملين، من أيام القياصرة إلى هذه الأيام، مروراً بالحقبة الشيوعية السوفياتية بالتأكيد. لكن موسكو لم تكن في يوم من الأيام على استعداد لدفع كل هذا الثمن الباهظ من أجل تحقيق ذلك الهدف. فلا بد أن ثمة دوافع إضافية جعلتها تقدم بهذا الشكل الهجومي الصارخ وبمواجهة نصف العالم تقريباً (الولايات المتحدة وأوروبا والعالم الغربي كله، مضافاً إليه ما يعرف بمعسكر «الاعتدال العربي»، وما هو مرتبط بكل هؤلاء من قوى حليفة وتابعة).
تقديرنا أن موسكو التي تتابع باهتمام معطيات الانسحاب الأميركي (رغم القتال التراجعي) من هذه المنطقة في أعقاب أزمة الـ2008 الاقتصادية الناجمة عن الاستهلاكات الباهظة للغزوين العسكريين في أفغانستان والعراق واشتراكاتهما، وما سيخلفه ذلك من فراغ استراتيجي في هذه المنطقة التي تشكل الخاصرة الرخوة للاتحاد الروسي، لا تريد لهذا الفراغ أن يملأ بتسونامي جهادي إسلامي يؤججه استيلاء إسلاميين متطرفين على الحكم في سورية (مفتاح المنطقة) بكل ما لهذا التسونامي من ارتدادات إقليمية في مقدمتها خلق «شيشان» جديدة وكبيرة تشعل الوضع الإسلامي داخل الاتحاد الروسي نفسه الذي يشكل المسلمون قرابة العشرين في المئة من عدد سكانه!
وعليه ترى موسكو أن العمل لمنع قيام مثل هذا النظام الإسلامي الجهادي في سورية هو دفاع مباشر عن روسيا نفسها. (نقل عن الرئيس بوتين قوله: إن دفاعنا عن دمشق هو دفاع عن موسكو) وهذا ما يستحق كل الأثمان التي يضطرها ذلك لدفعه.
ما هي الرؤية الروسية لمثل هذه المهمة؟
أولا: العمل العسكري... فبعد أن وصل التهديد «الجهادي» لسورية إلى درجة بالغة الخطورة مع معارك الساحل وإدلب وريف دمشق وضواحيها، بالإضافة لمعارك الجنوب والشرق... كان لا بد من تدخل عسكري سريع وفاعل يحدث تغييراً فعلياً في موازين القوى ويدرأ الخطر الداهم عن عاصمة الأمويين. وهذا ما حصل في الثلاثين من أيلول/سبتمبر 2015... وما زال مستمراً حتى الآن.
ثانياً: العمل السياسي، إذ يدرك الروس جيداً أن الانتصار العسكري (في حال تحقيقه!) لا يمكن أن يشكّل حلاً لجوهر المشكلة، فلا بد من صيغة حكم سياسية تمتص أسباب النقمة التي قاد تفجيرها إلى ما جرى في سورية على امتداد السنوات الخمس الماضية. وهذا ما يدفعهم لمواكبة العمل العسكري لصد خطر الجهادية الإسلامية بنشاط سياسي داخلي وإقليمي ودولي هدفه الوصول إلى حل سياسي للأزمة، وقوامه التفاهم على صيغة حكم تشاركية تؤمن قيام نظام تمثيلي مقبول شعبياً يؤمن الاستقرار ويفضي إلى امتصاص عوامل النقمة وصولاً إلى تبديد معطيات التشنج التي تشكل البيئة الأصل لانتشار الفكر الديني المتطرف وازدهار أحزابه ومنظماته وانتشارها كالنار في الهشيم.
ثالثاً: العمل الإقليمي. ما من شك في أن هذه الأزمة قد كشفت عن وجود انشقاق سني شيعي على المستوى الإسلامي في الإقليم كله يقع مركزاه في السعودية وإيران... وقد حاولت موسكو – وما تزال - أن تتوسط بين الدولتين المذكورتين لتخفيض درجة التوتر بينهما. ومع ضآلة النتائج في هذا المجال يبدو أن التحرك الروسي قد انتقل إلى العمل على المحور الإيراني – التركي، فبمقدار ما يتحقق من تفاهم بين الدولتين الإسلاميتين الكبيرتين في المنطقة يمكن أن ينعكس ذلك تحجيماً للدور السعودي في هذه المسألة! وما من شك في أن النجاح في تبريد هذه المسألة على مستوى دول الإقليم سينعكس إيجابياً على مستوى الشارع.
رابعاً: الصراع العربي - الإسرائيلي. تدرك روسيا بمواكبتها المزمنة لتطورات المنطقة أن الصراع العربي - الإسرائيلي يشكل أساس التوتر والتطرف والنزاعات في هذا الشرق الأوسط. ومع تضاؤل فاعلية الدور الأميركي في تحقيق إنجازات على صعيد حل هذا الصراع (أو ما يسمى أزمة الشرق الأوسط) وتنامي الحضور الروسي على جانبي هذا النزاع (بدور روسيا الحالي في سورية والمنطقة وتنامي العلاقات الروسية - الإسرائيلية) يرى مخططو الكرملين أن النهاية المرسومة للأزمة السورية ستفتح الباب واسعاً أمام دور روسي فاعل في مسعى متجدد لاستئناف مساعي السلام على هذا المستوى سواء سورياً - إسرائيلياً أو فلسطينياً - إسرائيلياً أو الأمرين معاً.
هذه بتقديرنا ملامح الدور الذي تلعبه روسيا على صعيد المنطقة من خلال انخراطها الهجومي في الأزمة السورية. وما من شك في أن هذا الدور الذي ينطلق من التطورات العاصفة التي تزلزل المنطقة كلها، ستكون له (في حالتي النجاح أو الفشل) اشتراكات وتبعات كبيرة جداً في رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، وربما ستكون له آثار كبيرة على مستوى العالم كله.
* كاتب سوري