محسن صالح *
لهذا فقد شرّعت كل القوانين والأنظمة الدولية حق المقاومة للشعب الذي تغزوه أو تحتل أرضه دولة أخرى أو شعب آخر. وهذا ما تريد أميركا إلغاءه ونعته بالإرهاب، وهي الوصية الحاضرة على النظام العالمي الجديد الذي يُحرّم فيه حق المقاومة. وقد نجحت كل المقاومات في إخراج المحتلين، من فيتنام الى الجزائر الى لبنان، وما زال الشعب الفلسطيني يقاوم لتحرير أرضه. والمحتل هنا هو منظمة عنصرية تدعى «الصهيونية» يؤازرها من يسيطر على القرار الدولي في العالم ولـــــديه مصادر القوة العاتية الإخضاعية ولديه أيضاً ثكنات عسكرية منتشرة في كثير من جهات الأرض ودولها بما يزيد على مئة وثلاثين موقــــعاً. هذا عدا احــــــــتلاله الجديد المباشر لدول وشعوب مثل أفغانستان والعراق ويـــ تحكم بالسلـــــطة والقرار.
«دولة الاستيطان» هذه استطاعت أن تغتصب كل فلسطين وأراضي لدول عربية مجاورة أخرى هي مصر والأردن وسوريا ولبنان. ولم تسلم دولة عربية محيطة بفلسطين من الاحتلال أو الاعتداء. عجزت الدول العربية عن توفير سلامة أراضيها وأمان مواطنيها في مواجهة هذه «الثكنة» المدعومة من دولة الاغتصاب الأولى «الولايات المتحدة الأميركية». أذعنت بعض هذه الدول العربية لشروط الاحتلال وأقامت معاهدات صلح منفرد، بدل أن تقوم بوظيفتها كدولة ومؤسسات عسكرية ومدنية. دول عربية أخرى أقامت علاقات مع المحتل نتيجة لسيطرة أميركا ودول غربية على شبكة المصالح والمنافع، وبهذا فقدت أيضاً قدرتها على التأثير في الصراع الذي لم يعد صراعاً عسكرياً وحسب وإنما تضاف إليه الثقافة والأمن الاجتماعي والاقتصادي والتقني والفضائي والمدني... إلخ. «شبه ــ الدول» هذه، أضحت في حاجة الى تعريف جديد للدولة: فهي لم تعد «دولاً» ذات أنظمة وعلاقات يمكن أن تتوافق مع أي شكل من أشكال الأنظمة السياسية المعاصرة أو حتى القديمة. نتيجة لهذا الفراغ في قوة الحماية استمرت المقاومة في فلسطين ولبنان حيث استطاعت أن تعوّض عن وظيفة الدول التي تناقصت إن لناحية الأمل أو حتى الحلم باسترجاع ما ضاع من «أمان»، وإن لناحية الفعل الذي أضحى معاكساً لرغبات الشعوب وطموحاتها المشروعة في الحياة. فالمقاومة في فلسطين اخترقت كل مؤامرات الأعداء وحازت شعبية عالية في الانتخابات الأخيرة وهي لا تزال تنبض بالحياة وهي شعاع الأمل الوحيد للفلسطينيين.
أما المقاومة في لبنان فقد عوضت الشعب اللبناني والعربي من عقود من الخيبة بـ«الدول والأنظمة» والإذعان للخارج، وجعلته يشعر بأن الشراع الجامدة لا بد لها من ريح تحرّكها في الاتجاه الصحيح كي تسير الى الهدف. فلم تضيّع العدو يوماً ولم توجّه الأشرعة نحو الداخل، وأتى عدوان تموز \ آب الأخير وصمدت المقاومة على الرغم من الدمار الذي حلّ بالمركب، وعلى الرغم من المؤامرة العالمية عليها التي كُشف النقاب عنها أثناء العملية ومن تصريحات المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين ومن الطبيعة الهمجية لهذا العدوان (تقرير سيمور هيرش). فالمسألة لم تكن مسألة جنديين اختطفا من أجل هدف محدد، وهو تبادل الأسرى، بل ضرب المقاومة وجعل «الدولة» والشعب يذعنان للشروط الإسرائيلية \ الأميركية. أخفق العدوان وصدر القرار 1701، ولم يتضمن «نزع سلاح المقاومة»، لأن «الدولة» وبإصرار الشعب اللبناني على لبنانية مزارع شبعا المحتلة واسترجاع الأسرى وأمور أخرى، لم تجرؤ على وضع سلاح المقاومة موضع مفاوضات. والآن يأتي بعض «السلطة» ليطالب بنزع سلاح المقاومة لأنه «لا يجب أن يكون هناك سلاح غير سلاح الدولة الشرعية». في الأسبوع الأول للعدوان أطلّت وزيرة الخارجية الأميركية رايس لتقول بشرق أوسط خال من المقاومة؟ وهي كانت تقود المعركة السياسية، فما هو هذا الشرق الأوسط الجديد وطبيعة الدولة التي يراد لها أن تنشأ بغير رضى وقبول الشعوب التي يشملها هذا الشرق الجديد...
هل هي دولة الحماية والرعاية والرفاه، أم «دولة» الفوضى الخلاقة (الهدامة)، أم الدولة \ السلطة الوكيلة؟
كانت الدولة اللبنانية تابعة لأشكال السياسة الدولية التي تريدها أميركا وإسرائيل فحذار من العودة الى هذه السياسة، لأن دموع الولايات المتحدة التي أدارت العدوان، أفرزت 230 مليون دولار من ضمنها منح الطلاب التي تعطيها وكالة التنمية الأميركية. فلا تراهنوا كثيراً على الرأسمالي الأميركي الذي يأكل ولا يشبع ويتسلط باستكبار قلّ نظيره في الزمن السياسي العالمي وهو لا يريد شركاء بل أتباعاً. وأيضاً بالنسبة الى الأمم المتحدة التي يقول أمينها العام كوفي أنان في تقريره الشهري عن تطبيق القرار 1701 ــ فقرة 56 ــ «تسرني الإشارة الى أن الحكومة اللبنانية، وفي انعكاس لتوافق آراء وطني حقيقي، قررت بعبارات واضحة أنه لن يكون هناك سوى مصدر واحد للقانون والنظام والسلطة»... و«لن تقبل أي دولة في المنطقة أو أي مكان آخر وجود مجموعات مسلحة تتحدى احتكار الدولة للاستخدام الشرعي للقوة في أراضيها كاملة»!. فهل هذه المنظمة الدولية ساعدت على تطبيق القرارات الدولية ومن ضمنها 425 أم المقاومة؟ وهل استعادت السلطة اللبنانية احتكار الشرعية إلا في ظل وجود المقاومة التي حمت وجودها. بناءً عليه ففي المسألة اللبنانية، كما في المسألة الفلسطينية، لا دولة من دون مقاومة ما دامت إسرائيل تخترق كل الشرعيات في شكل دائم.
(حلقة ثانية وأخيرة)
* أستاذ جامعي