واضحٌ اهتمامنا اللافت بدورة «مهرجان البستان» الحالية. قد يتساءل القراء عن السبب، وهذا من حقهم. نودّ التوضيح، وبما أننا لسنا على لائحة الشركاء الإعلاميين للمهرجان، ولا تربطنا به أي منفعة مادية أو معنوية، أن حجم هذا الاهتمام أتى كبيراً لأربعة أسباب: أولاً، الواجب المهني في تغطية أي حدث من هذا النوع.
ثانياً، تمحوُر الدورة حول المؤلف الألماني باخ دفع بنا إلى عدم تفويت فرصة الاحتفاء به، وهذا واجب إنساني وأخلاقي وجمالي تجاه الناس ولا علاقة له لا بـ «البستان» ولا بجمهور هذه الموسيقى في لبنان (نختلف في أغلب الحالات مع نظرته للموسيقى، ومن خلفها المجتمع والإنسان). ثالثاً، وجود أسماء لامعة في هذه الدورة يفرض تقديراً لتعبهم وتفانيهم وتسخير موهبتهم لخدمة باخ والجمال، وكذلك لا علاقة لذلك للمهرجان ولا لمصفّقي الصف الأول في الأمسيات. رابعاً، لمجرّد أننا نؤمن بالموسيقى (ماذا يعني ذلك؟ يحتاج ذلك وقتاً ومساحةً لشرحه) وبالحاجة إليها وبالأخص في مجتمعنا، اليوم، وبضرورة الترويج لها والتبشير بها، اخترنا من دون تردّد سهر الليالي لإعداد هذا الملف، كي لا نفوّت فرصة تغيير حياة ولو إنسان واحد.
لكن في الواقع، أبرز نقطة من المفيد التوسّع بها هي مسألة الموسيقيين الذين دُعيوا إلى «البستان» هذه السنة. فموسيقى باخ موجودة على يوتيوب ويمكن شراؤها بتسجيلات مرجعية وبأشكال مختلفة (CD أو عن الانترنت وغير ذلك). لكن الاستماع الحي (خطّان تحت هذه الكلمة) وبأداء موسيقيين لامعين هما مسألة غاية في الأهمية، وهذا تحديداً ما يُشكَر منظمو «البستان» عليه. إنه اختبارٌ عظيمٌ ليتنا نملك الإمكانات التي تتيح لنا إهداءه لكل الناس مجاناً. إنها أعجوبة جمالية، تحصل في لحظتها، ولا تتكرر إلّا على شكل صدى في الذاكرة. هذا لا يعني أن ما حققه المهرجان في هذا السياق بلغ أعلى مرتبة ممكنة… فـ «الوحوش» غائبون تماماً.
في ما يلي، جولة سريعة على أبرز المدعوين وعلى أبرز الغائبين. نبدأ من الكونتر تينور (صوت الرجال الأكثر ارتفاعاً في الغناء) الألماني الشهير أندرياس شول. في فئته، يعتبر شول من أبرز النجوم في السنوات العشرين الأخيرة وهو متخصّص في موسيقى العصور القديمة، أي حقبة الباروك وما قبلها. يقدّم شول أمسية بمرافقة أيضاً مميّزة، لواحدة من أوركسترات الباروك المرموقة في العالم (Accademia Bizantina) وبقيادة مايسترو محترم لكن أقل شهرة من زميله، الإيطالي أوتافيو دانتوني، الذي يقدّم أيضاً أمسيةً ثانية على رأس مجموعته وعازفاً على الهاربسيكورد.
كذلك، وفي فئة آلة التشيلّو التي خصّها باخ بست متتاليات منفردة وأعمال أخرى، هناك أكثر من اسم كبير في «البستان» هذه السنة. الاسم الأعتق هو الإنكليزي ستيفن إيسرليس الذي يقدّم أمسيتين ببرنامجين مختلفين، ومعه أيضاً أوركسترا من الفئة الجيدة هي «لوسيرن سيمفوني أوركسترا». يليه النجم الفرنسي المكرّس عالمياً، الذي يعود إلى المهرجان، غوتييه كابوسون، وكذلك زميله فيكتور جوليان-لافريير الذي حاز جائزة مرموقة عن آخر إصداراته (أفضل ألبوم موسيقى حجرة لعام 2017 من مجلة «ديابازون»). في فئة عازفي الهاربسيكورد، استطاع المهرجان دعوة اسم حقق شهرة عالمية سريعاً، وبعزف باخ تحديداً، الإيراني ماهان أصفهاني، وكذلك الفرنسي جان روندو. لكن الأخير سيقدم مشروعاً هجيناً لا علاقة لباخ فيه. في المقابل، وبعد اعتذار الأميركي المذهل كيت أرمسترونغ عن الحضور، ثمة ثغرة كبيرة في ما خص عزف باخ على البيانو. فالألماني مارتين شتادتفلد ليس أفضل مَن يمكن دعوتهم في هذا السياق, ولا زميلته الروسية التي نابت عن أرمسترونغ.
لكن تخيّلوا لو حَوَت الدورة الأسماء التالية المعروفة بإنجازاتها في ريبرتوار باخ، ومن فئات مختلفة: رافال بليخاتش (بيانو) البولوني الشاب وحائز المرتبة الأولى في «مسابقة شوبان — 2005» ومبدع واحد من أجمل الديسكات المخصصة لباخ في العقد الأخير (صدر منذ سنة)، الأنيقة التي سجّلت معظم ريبرتوار باخ الخاص بآلتها الكندية أنجيلا هيويت (بيانو)، أكبر رموز المدرسة الروسية غريغوري سوكولوف (بيانو)، المخضرم الذي «لا» يخطئ وصاحب تحف في أداء باخ موراي بيرايا (بيانو — لكن المشكلة معه أنه كثير الزيارات إلى الجارة العنصرية المجرمة)، وكذلك زميله في خدمة باخ، الألماني أندراس شيف، الروسي الشاب إيغور ليفيت (بيانو)، الفرنسي ألكسندر تارو (بيانو) ومواطنتاه سيلين فريش وبلاندين رانو (هاربسيكورد)، الألماني كريستيان تيتسلاف (كمان) الذي ذهل النقاد أخيراً بتسجيله أعمال الكمان المنفرد لباخ، وغيرهم الكثير. أما العملاقان اللذان حلمنا للحظة أن أحدهما قد يزيّن هكذا حدث وهما بدون شك صاحبا الإنجازَين الديسكوغرافَين الأهم (كمّاً ونوعاً) منذ عقدين في ريبرتوار باخ: المايسترو الإنكليزي، عاشق صوت فيروزتنا، جون إليوت غاردينر، والياباني الذي انحنى أمام المعلم الألماني وخدمه كما لم يفعل أهله الجرمانيون: ماساكي سوزوكي.
كل هؤلاء لن يأتوا. لا يلغي ذلك حقيقة أن الدورة 25 لـ «مهرجان البستان» هي أهم حدث في فئة الموسيقى الكلاسيكية، هنا وفي والعالم العربي، منذ عقود.