في عام 1992، فُجِعَت فرانس غال (France Gall) برحيل حبها الكبير، زوجها وصانع أبرز أغانيها، ميشال برجيه عن 44 عاماً. بعدها بخمس سنوات، سترحل ابنتهما البكر، بولين، عن 19 عاماً. ويوم الأحد الفائت، فارقت غال الحياة بعد صراعٍ مع المرض، لتلاقي من غابا باكراً وتركاها «تقاوم»، كما تقول الأغنية التي ستظل تصدح بصوتها وتمنح الدفع والأمل إلى كل من غلبه اليأس.
من بداياتها وهي قاصر مطلع الستينيات (أيُّ تلميذ لم يغنِّ Sacré Charlemagne أو لم تخطر في باله فكرتها من دون أن يعرفها حتى؟)، ثم فوزها بالجائزة الأولى في «أوروفيزيون» عام 1965 عن تعاونٍ لها مع سيرج غينسبور نصاً وموسيقى (Poupée de cire poupée de son)، إلى المرحلة الجرمانية عندما هاجرت إلى ألمانيا وغنت بلغة غوتيه، وبعدها فترة المشاريع الفاشلة والتفكير في الاعتزال المبكر في النصف الأول من السبعينيات، ومن لقائها بالكاتب والملحّن الشاب ميشال برجيه وارتباطها به عام 1976، ثم اكتشاف مرض وراثي نادر لدى ابنتها بُعَيد ولادتها عام 1978، إلى انطلاقتها الثانية التي حملت توقيع برجيه نصاً وموسيقى بشكل حصري، وأخيراً، من خسارتها ميشال عام 1992 ثم بولين عام 1997 وابتعادها عن الأضواء، إلى عودتها العابرة (2015/2016) بمسرحية غنائية بعنوان «قاوم» من كتابتها، مبنيّة على موسيقى ونصوص تجربتها الغنائية مع زوجها، وأخيراً مرضها ومعاناتها الصامتة… كل ذلك جعل من الجنّة والجحيم يتساكنان في حياة فرانس غال، المولودة إيزابيل غال عام 1947. منذ بدايتها، أحبت فرانس غال الأدب والموسيقى، ووالدها روبير، الذي وقّع نصوص بعض أعمال إيديت بياف وشارل أزنافور، كان كاتب واحدة من أولى أغانيها، Sacré Charlemagne التي تُعتَبَر ثورة في بلدٍ معروف عالمياً بصرامة نظامه التربوي (لغاية اليوم).

صدح صوتها اللعوب مع سيرج غينسبور الذي أعطاها أشهر أغانيها
هذه الأجواء ذات الملامح التقدمية التي تعيد النظر في الثوابت الاجتماعية والموسيقية، عاشتها في العائلة ووجدتها عند سيرج غينسبور. أول ما صدح صوتها اللعوب، كان تحت جناحه قبل أن يعطيها أشهر أغانيها، مثل تلك التي ذكرناها سابقاً وLes sucettes التي تحمل ازدواجية في المعنى على طريقة مبدعها، بين براءة الطفولة والإيروتيك. كذلك مع ميشال برجيه، خبرت وشاركت في تغيير مفهوم الأغنية الفرنسية من أسلوب الأداء (الذي أنقذ الضعف النسبي لصوتها) إلى الموسيقى المتماهية مع الروك أند رول والتيارات الأميركية السوداء (فانك، آر أند بي، جاز…) التي جذبت برجيه إليها. تعرّف إلى موسيقى راي تشارلز وهو لمّا يزل صبياً أرستقراطياً فرنسياً في الـ13 من عمره، يدرس البيانو الكلاسيكي مع والدته المحترفة ويمضي الوقت في عزف شوبان في كنف العائلة الثرية. في أواسط السبعينيات، كان برجيه في بداية نجوميته حين تعرفت إليه غال، فبدآ التعاون عام 1974 (بعدما رفَض ميشال العمل معها بدايةً) نتيجة وقوعهما في الحب، ثم تزوجا عام 1976 في الفترة التي كان يعمل فيها على موسيقى المسرحية الغنائية الأشهر (أو من الأشهر) في تاريخ فرنسا، «ستارمانيا» (كتابة لوك بلاموندون، تماماً كما «أسطورة جيمي» التي لحّنها برجيه عام 1990). رزق الفنانان، بعد سنتين من الارتباط، ببولين، التي ستصبح محور اهتمام الثنائي وفرحه الأكبر، قبل أن تحل الكارثة مع اكتشاف إصابتها بمرض قاتل. بعد بولين، أتى رفاييل وأيضاً عشرات الأغاني التي عكس معظمها شغف برجيه/ غال بالفن وتجربتهما في الحياة وصمودهما في وجه صعوباتها ومفاجآتها المؤلمة… هكذا كانت Résiste وTout pour la musique وIl jouait du piano debout وElla, ella l’a (تحية إلى إيلا فيتزجيرالد) وغيرها... أما آخر ألبوم مع ميشال برجيه، فحمل عنوان Double jeu، وصدر قبَيل رحيله. في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1996، أحيَت فرانس غال ذكرى زوجها في حفلة في مسرح الـ «أولمبيا». في تلك الفترة، كانت الذائقة الشعبية (في فرنسا والعالم) قد بدأت تغرق في مستنقع السطحية، غير أن غال سارت عكس التيار وأمّنت فرقة من الموسيقيين السود (أميركيون بمعظمهم) الذين رافقوها في ريبرتوار زوجها الذي أدّته بتوزيع فاق النسخ الأصلية في بعض الأحيان، فأتى فعلاً بمثابة تكريم لائق للرجل الذي أحبّ هذه الأجواء (فانك، آر أند بي، سول…) وكان من أبرز رسلها في فرنس فهلّ من يُكرِّم الراحلة بما يحاكي مفهومها الراقي للتكريم؟ أم أن الصالات الفرنسية العريقة باتت مرتعاً لنجومنا ونجوم فرنسا من تجّار القبح والتفاهة؟