في تصريح على الطراز الترامبي، قال الروائي الفرنسي المثير للجدل ميشال ويلبيك (1956) إنّ النخب الفرنسيّة تكره الشعب. تصريح صاحب رواية «خضوع» جاء من الأرجنتين التي انتقلت قبل عامين إلى اليمين بانتخاب رئيس جديد. وقد دعته وزارة الثقافة لإلقاء محاضرة عن حالة الانقسام في الوسط الثقافي الفرنسي من وجهة نظره.
في المقتطفات التي نشرتها مجلة «فالور أكتيال» اليمينيّة، يقول ويلبيك إنّ الحرب العالمية الثانية أفقدت المثقفين اليمينيين مصداقيتهم، وهو يرى أنّ جزءاً منهم قد ظلم، ووضعت مجمل السلطة الفكرية في أيدي المثقفين اليساريين. بعد الحرب، ونظراً إلى سطوة الحزب الشيوعي، تمتع العمال والفقراء بصفة عامة بمكانة مرموقة في «إعلام النخبة»، حيث اعتبرت آراؤهم ووجهات نظرهم ذات قيمة. لكن ويلبيك يستدرك بأنّ سلطة اليسار الثقافيّة بدأت بالتآكل بعد أيار (مايو) 1968، بخاصة بعد نشر كتاب «أرخبيل الغولاغ» الذي يقول بأنّه غيّر مجرى تاريخ العالم. مع انحدار الحزب الشيوعي، انحدر أيضاً احترام البروليتاريا، وظهرت «انتفاضة النخب ضد الشعب» مترافقةً مع تصاعد استخدام مصطلح «الشعبويّة» والتشكيك في قدرات الشعب (مثاله على ذلك استفتاء عام 2005 حول معاهدة لشبونة، التي صوّت عليها الفرنسيون بـ «لا» ولم يلتزم الساسة بالنتيجة).

يقول إنّ سلطة اليسار الثقافيّة بدأت بالتآكل بعد مايو 1968

تآكل اليسار الثقافي أدى ــ وفق الروائي الإشكالي ـ بمثقفين كآلان فينكلكروت، وميشال أونفري، وإيريك زيمور إلى الانشقاق عنه والاصطفاف مع الشعب، من دون أن يلتحقوا ضرورة باليمين، بل وجدوا ما أضاعوه سابقاً، أي حريّة التفكير. ويعلن بفخر عن نفاد قدرة اليسار على ترهيب العقول، إذ لم يعد أحد يخشاه أو يأبه له. نشر المجلة لهذه التصريحات ليس مصادفة، بل هو جزء من سياسة اليمين، خصوصاً أنّها الداعمة بشدة لمرشح اليمين فرنسوا فيون الذي تعتبر أنّه تعرض لحملة إعلاميّة مغرضة قادتها النخب التي استهدفها ويلبيك. والرابط الجامع بين الأطراف الثلاثة ــ رغم وجود فروقات بينهم ــ هو عداؤهم للإعلام اليساري ورسمهم صورة تختصر الإسلام والوجود الإسلامي في فرنسا في التنظيمات المتطرفة، بالتالي، فلق المجتمع عموديّاً على أساس ثقافي وهوياتي. يتجسّد العدو الذي يرسمه هذا الفريق في ما يمكن أن نطلق عليه «وجه المسلم» و«وجه اليساري» الذي يحمي أو يتردد على الأقل في إدانة الوجه السابق.
«نعم أنا أخاف الإسلام» يقول ويلبيك في تصريح سابق من دون حرج، لكنه يقول إنّ الإسلاموفوبيا لا تعني كراهية الإسلام، فهي تنحصر بالنسبة له في الخوف منه. وفي روايته «خضوع» (أو «إسلام» بما هو تسليم بالأمر لسلطة أعلى) يرسم الروائي صورة متخيّلة لفرنسا يحكمها في عام 2022 محمد بن عباس، وهو مسلم «وسطي» وابن بقّال تونسي، حيث تشرِّع تعدد الزوجات وتلزم النساء بالبقاء في المنازل. ينبني الخوف الذي تروجه الرواية على فرضيّة وصول مسلم إلى الرئاسة الفرنسية. مسألة لا يتصورها أغلب الفرنسيين، بل تمثّل كابوساً لهم، ليس فقط لأنّه مسلم، بل لأنّ الخضوع للإسلام «ليس في نهاية المطاف سوى الخضوع الأخير لأولئك الخاضعين قبلاً، أولئك المستسلمين والمرتخين» وفق ما يقول المحلل النفسي فتحي بن سلامة في حوار معه حول الرواية. إذ كيف يمكن لذوات أخضعتها فرنسا في مجمل الشرق لـ «مهمتها الحضاريّة» أن تتمرد وتصبح حاكمة (بصرف النظر طبعاً عن الصورة التي ترسمها الرواية للمسلم الوسطي التي لا تطابق صورة السواد الأعظم لمسلمي العالم)؟ رئيس فرنسا يجب أن يكون «فرنسياً أصليّاً» حسب العبارة التي يحبذها آلان فنكلكروت، وتعني أن تكون أبيض البشرة ـ بياضاً أوروبيّاً- وكاثوليكي المذهب، ولن تشفع لك علمانيتك أو تبنّيك لقيم الجمهورية إن لم تكن أصليّاً (المفارقة هنا أن فنلكلكروت نفسه ينحدر من أصول بولندية).
لا تحيد آراء فرنسوا فيون حول الإسلام عن الآراء المضمرة لويلبيك. في كتابه «هزيمة الشمولية الإسلاميّة» (2016)، يسترجع فيّون صورة قروسطيّة لإسلام يريد إخضاع العالم وتدمير الحضارة الغربيّة وينصّبها في الحاضر كخطر يهدد فرنسا ومجمل أوروبا. وتماشياً مع الروح الاستعماريّة الكامنة، لا يحصر فيون اهتمامه في فرنسا، بل يمددها إلى خارجها. يعبّر عن تخوفه من التهديدات التي يتعرض لها المسيحيون في المشرق، كأنهم عجّز ينتظرون قدوم فرنسا لتحريرهم، أو كأن حضورهم طارئ يستوجب حماية، من دون أن يذكر طبعاً أنّ القتل والتهجير، الذي يتم بأسلحة صنعت في الغرب، يستهدف الشرقيين من دون استثناء.
لن تكتمل الدائرة طبعاً من دون صحافة يمينية. تلتقط مجلة «فالور أكتيال» كلّ صغيرة تدين الإسلام وتشنّع بالمسلمين. نجد مثلاً، ضمن عدد كبير من الأخبار المماثلة، تغطيتها لتصريح جيرار لونغيه، وزير الدفاع السابق والنائب الحالي، المقرب من فيون، الذي يقول إنّ الإسلام يمثّل مشكلة في فرنسا. ويعتبر لونغيه أنّ بعض الجماعات، مثل الصينيّين في فرنسا، لا تمثل أي خطر، لكن المسلمين يمثلون خطراً حقيقيّاً، لأنهم ـ بالنسبة إليه ـ لا يفصلون بين الروحي والزمني. لا تقف آراء الوزير السابق عند اختصار المسلمين في فرنسا في جوهر واحد ثابت، بل يجعلهم جماعة منغلقة تتبنى آراء متطابقة. كثيرون يتذكرون أيضاً حين حلّ فيون على القناة البرلمانية الفرنسية. وردّاً على وزير المجاهدين الجزائريّ الذي دعا فرنسا للاعتذار عن فظائعها في الجزائر، قام بحركة لا أخلاقيّة ظناً منه أن البرنامج قد انتهى، مما يعكس نفس الروح الاستعماريّة التي يعبر عنها فيون وبقية زمرة اليمين.
قد يحتوي النقد الذي وجهه ويلبيك إلى النخب اليساريّة بعض الحقائق. اليسار، ممثلاً في الحزب الاشتراكيّ الحاكم أساساً، لا يختلف في العقود الأخيرة كثيراً عن اليمين من ناحية السياسات. فمن الناحية الاقتصاديّة، مرّر الحزب أخيراً قانون العمل الجديد الذي يوسّع سلطة المشغلين ويحد من حقوق العمال، وهو قانون يقف على النقيض من القيم اليسارية. من ناحية السياسة الخارجيّة، وفي ما يخصنا نحن العرب، لم تختلف سياسة فرنسا في عهود الحكم اليساري. لم نر اعتذاراً رسميّاً عن الماضي الاستعماريّ ولم تتوقف القنابل والصواريخ المنهمرة على بلداننا برعاية أو إسناد فرنسيّ. مع ذلك، تظهر بعض النخب اليسارية السياسية والإعلامية تعاطفاً مع قضايا العرب، وتتمنع عن خوض معارك ثقافيّة مع المسلمين في فرنسا.
لا يمكن وضع اليمين، بما يحمله من قيم عنصرية منحازة وسياسة اقصائيّة رافضة للآخر، على قدم المساواة مع اليسار، الذي وإن انحرف الجزء السائد منه عن مشاريع اليسار وقيمه، يحافظ جزء آخر داخله على سياسة منفتحة على الآخر ومتقبلة للاختلاف. ما يطرحه ويلبيك، وبقية التحالف اليميني، هو تصفية اليسار وتكريس «وجه المسلم» كعدو داخلي يخدم كقناة تفريغ لمشاعر الاستياء التي تطغى على فئات واسعة من الفرنسيين جراء سياسة اقتصادية واجتماعية نيوليبراليّة ما انفكت تقضي على مؤسسات دولة الرعاية الاجتماعية واحدة تلو الأخرى، معوّلين في ذلك على ما تقترفه الجماعات المتطرّفة من جرائم ما كانت لتكون لولا سياسات الغرب؛ من أفغانستان وصولاً إلى العراق.