منذ أن نشر باكورته الشعريَّة «مديح لمقهى آخر» (بيروت ـــ 1979)، رسم الأردني أمجد ناصر خطّه المتفرِّد. وبقوّة التفرُّد ذاتها، انطلق نحو مشاغل التدوين في شتّى الأنواع الأدبيَّة منتهياً برواية «هنا الوردة» التي صدرت عام 2016 عن «دار الآداب» في بيروت.
كتابه «شقائق نعمان الحيرة» الصادر أخيراً عن «دار المتوسّط» بتقدمة للشاعر العراقي سعدي يوسف، يضمّ مختاراتٍ لكتابات أمجد ناصر كنماذج من مختلف مجموعاته الشعريَّة الصادرة. سنقفُ أمامَ اختياراتٍ لنصوصٍ مثّلت بانوراما مختصرة عميقة عن تجربة ناصر الشعريَّة. النصوص مرتّبة وفق تاريخٍ تسلسلي معيّن، يبيّن مدى التحوّل الذي يطرأ على النصّ. النقلات تتجلَّى واضحةً، حيث الأسئلةُ الثريَّة الموجودة ضمن مختارات من ثمانية دواوين سابقة، نراها تتأرجح ما بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر إلى أن تجد لنفسها عمقها الأساسيّ ولغتها الخاصَّة.

بعينٍ مفتوحةٍ ومركِّزة على الدوام، يراقب أمجد في مختلف نصوصه تحوُّلَ العالم ليكون هو أيضاً رافضاً لفكرة الثبات. الرفض مكتوب بلغةٍ هي أقربُ إلى الإدهاش، ومن ثم إذعان القارئ لضرورة إعمال الفكر والتأمّل. لكن على الرغم من ذلك، لا مجال مطلقاً للغوص في التأويل، فالنصوص واضحة وصريحة تمضي كي تشكّل لذاتها النواة الأساسيَّة وهي المضيَّ في البساطة، بساطة الطرح وعمقه في آنٍ معاً.
في مختارات مجموعته «مديح لمقهى آخر»، يركّز ناصر في تجربته الشعريَّة على الإدهاش، قوّة النص والحلم الهادئ الذي يعتور مجمل النصوص التي دوَّنها: «لكَ الآن أن تشتهي منزلاً في جنوبِ الوطنْ/ وتبدأه بالشجرْ/ وأنت تحبُّ الأرزَ/ فخذ أرزةً/ فرعها طيَّبٌ/ وامضِ في الأرض، لا تلتفت إلى الوراءِ/ فما الأرزُ إلّا أصابع أطفالِنا الميّتين».

«مُرتقى الأنفاس» (1997) هو الديوان الأكثر نحتاً للغة بين دواوينه


بدءاً من العنوان والمفردة التي يمدحها أي «المقهى»، يشكّل الأخير ولا يزال عنصراً من العناصر المكانيَّة المهمّة في ما أُنجِز في الشعرِ عربيَّاً، وهذا ما سيذكره أمجد ناصر عقب مراجعته لمختارات «شقائق نعمان الحيرة» في إحدى مقالاته المنشورة منذ فترة: «وأنا أراجع المختارات الشعرية، «شقائق نعمان الحيرة» لاحظت كم تكرَّرت، في هذا المتن، ثيمة المقهى وما يندُّ عنها. وجدت مفردة المقهى، وموضوعها، مستقرّة، منذ عملي الشعري الأول «مديح لمقهى آخر». هذا حضورٌ صريح للمقهى، لا التباس فيه. إنه العنوان نفسه. أظن أن حضور المقهى، على هذا النحو المباشر، قادمٌ من الحياة اليومية والقراءات. ولكن حتى هذا حدث على نحو غير مُفكَّر فيه».
قوّة اللحظة تبقى صامتة وتُجبر القارئ على الإنصات المستمرّ، كأنّ سحراً ما داخل المفردات تجعلها ذات تأثيرٍ مستدام! وهذا ما يراهَن عليه ــ وبقوَّة- في مجمل ما كتبه ناصر. في معرض تقديمه للمختارات، أشار الشاعر سعدي يوسف إلى أنّ تجربة ناصر منفردة تماماً، فأمجد الشاعر بقيَ «مستقلّاً بنفسِه، لا يرفع بيرقاً، ولا ينضوي تحت بيرقٍ».
يبرع ناصر في كتابة «الأنشودة» كمعادل لنصٍّ مقدّس يصلح لجميع الأزمان ويُقرأ كجرعة وقاية متى ما تدخّل الرديء ليُفسِد القديم المميَّز. ثمّة إنقاذٌ للشعر لحظة انحداره نحو الأسفل، فقصيدة ناصر مليئة بالشعريَّة واللحظات التي من الممكن جدَّاً أن تؤخَذ كتجربةٍ غنيَّة، سواءُ من ناحية اللغة أو من ناحية الخيال المُدهش.
وفي ديوانه «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» الصادر في بيروت عام 1981، يتجّه نحو شعريَّة أقوى. النثرُ واضح. تبدو الجملُ مشذَّبةً والنصوص قصيرة مختزلة لغةً وتخيُّلاً: «ما جدوى الأيدي/ بالنسبة لنا نحنُ الذين/ لا نُحسنُ الرقصَ أو النحتَ/ إنّنا نَحارُ أين نذهب بها/ وخاصةً عندما نسيرُ وحدنا في الشوارع».
ثمّة انطلاقٌ نحو النثر في كلّ ديوان كان أمجد ناصر يصدره. التحرُّر والكتابة دونما قيودٍ معيّنة، حيث يركز في جلّ كتاباته على الذاكرة والترحال، الترحال وما يخفيه من ألمٍ تسبّبه الذاكرة نفسها عند كلِّ ترحال جديد. كلّ ذلك بلغةٍ عرف كيف يستخدمها للدلالة.
يبدو أن المختارات وإعادة نشر النصوص، توحي بأنّ ثمّة تراتبيَّة معيَّنة للذات الشاعرة التي تمرّ بأكثر من مرحلة. اليوميَّات والقراءات والتأمّل تُضفي الهيبةَ على كلّ ما يُدوَّن. الذات المُنهكَة من الكتابة تبدو صريحة جدّاً في ديوانه «رعاةُ العزلة» الصادر في عمان عام 1986. مفردات تشي بالعزلة والحطام موزّعة بين ثنايا المجموعة: «ذهبتُ إلى النَّهر/ فلم أجدْ إلَّا الحصى ووصايا الجفاف/ ذهبتُ إلى العاشقينَ/ فلم أجد سوى حبرِ الرسائلِ/ وخريفَ القرنفل». الوحشةُ والغياب والراياتُ الممزَّقة ترسمُ هذا الخطّ الشعري. وفي ديوان «وصول الغرباء» الصادر عام 1990 في لندن، تتجّه الشعريَّة نحو اليومي. يفصح الشاعر عن قدرته الدائمة على التحوّل وتطوير الأدوات الشعريَّة لديه، ليتأكّد التميّز في مجموعته «سرَّ من رآكِ» الصادرة في لندن عام 1994. هنا، تغدو الأنثى عنصراً هامّاً في النصّ. نصوص نثريَّة مختلفة ضمن المجموعة ذاتها، تؤكِّد على الدوام الكتابة الحقَّة التي أُفلتت من التكرار والاجترار.
ويأتي ديوانه «مُرتقى الأنفاس» الصادر في بيروت عام 1997 عملاً متّسماً بالحزن والكآبة والانفعال المستمرّ. ويمكن النظر إليه على أنّه الديوان الأكثر نحتاً للغة بين دواوين الشاعر الصادرة. نجد النَّفسُ الطويل والجملةُ الشعريَّة التي تحمل في طيّاتها العديد من الدلالات والرموز، وإسقاطات التاريخ العربي القديم على الحديث ضمن نصٍّ واحد.
«يا لهذا العبير/ أنفاسُك/ حتماً، تنزّهت/ في الناحية». المقطع السابق هو من قصيدة «أنفاس الهايكو» من ديوان «كلّما رأى علامة»، حيثُ التركيز على الحذف والتشذيب ضمن قصائد قصيرة مكثَّفة تحمل الجماليَّة الخاصَّة بها ولا تشبه أيَّ قصيدة أخرى مكتوبة. فاللغةُ في قمّة اختصارها، والاستلهامات آتية من اللوحات التشكيليَّة والنصوص الشعريَّة السابقة.
تصلُ التجربة الشعريَّة إلى أوج إدهاشها في «حياةٌ كسردٍ متقطِّع» (2004). ديوان تخلّى عن الشكل ومضى نحو الذاكرة. ثمّة التباسٌ يمكن وصفه بــ «اللذيذ» ضمن نصوص المجموعة، حيث التقاطعات الغريبة التي يورِدها النصّ، والالتقاطات اليوميَّة في المكان الجديد وإرجاعها إلى الأزمنة السحيقة داخل الذاكرة/ ذاكرة الشاعر التي هي ذاكرتنا نحنُ أيضاً: «لم يتغيَّر شيءٌ يُذكر في البيتِ بعد وفاةِ أمّي. فأخواتي الأربعُ، صورُها الجانبيَّة شابَّةٌ، يواصلنَ رفع النهار على أثافيه الثلاث: الهال صباحاً، الكُركُم ظهراً، النعناعُ مساءً. ففي بيت أهلي لا حاجة بك إلى ساعةِ يدٍ أو حائطٍ يكفي أن تشمَّ الرائحةَ لتعرف موقع الشمسِ في السَّمتِ».
في تجربته الشعريَّة، ركّز أمجد ناصر على الالتباس الحاصل ما بين الشعر والنثر، القضيَّة الأكثر إشكاليَّةً في الشعر العربي. غير أنّه لا يكترث للمقولات، بل يمضي بتركيزٍ عالٍ على العزلةِ والملاحظة الدقيقة مشكِّلاً لذاته خطَّاً تحوليَّاً يرفض الثبات، يتنقَّل فيما بين الأشكال الكتابيَّة بحريَّةٍ مستقاة من التجربة الشعوريَّة المحترفة والعميقة، لتكونَ القصائد هي اللغةَ الأوحد بين البشر.