يُعتبر قطاع الطيران من القطاعات الأساسية الداعمة للاقتصاد، سواء من خلال تأمين مداخيل مالية لخزينة الدولة أو من خلال خلق فرص العمل. فالنقل الجوّي يلعب دوراً رائداً في دعم السياحة والتجارة وتسهيل التواصل وتعزيز الانصهار الاجتماعي. لكن قدرة هذا القطاع على دعم النموّ المحلّي اقتصادياً واجتماعياً محصورة بشكل كبير بالقدرة التنظيمية والتشغيلية للمؤسّسات الحكومية والهيئات الرسمية المُشرفة عليه من جهة، وبدرجة ترشيد التخطيط والاستثمارات فيه وربطها بالأجندة الوطنية للتنمية من جهة أخرى. ملف الطيران في لبنان مُعقّد وشائك، ليس فقط بسبب الازدحام الخانق الذي يشهده مطار بيروت موسمياً، ولا بسبب الأعطال المُتكرّرة على أنظمته، وحتماً ليس بسبب المعلومات المُقلقة والمُتعلّقة بسلامة وأمن الطيران التي تتناقلها وسائل الإعلام من فترة إلى أخرى. كلّ هذه الأسباب هي نتائج مشكلات بنيوية مترسّخة في صلب أجهزة الدولة ومؤسّساتها الرسمية المسؤولة عن التخطيط والتنظيم والتشغيل والرقابة. إن ملف الطيران المدني في لبنان مُقلق فعلاً، نظراً إلى المصالح السياسية الهائلة التي تتحكّم في مفاصله، ونظراً إلى غياب سياسات النقل التطويرية وعدم ربطها برؤية وطنية تنموية شاملة.

ضرورة تفعيل قانون إدارة قطاع الطيران المدني قبل طرح مشاريع الاستثمار والشراكة في البنية التحتية للنقل الجوّي
عرض مؤتمر الاستثمار في البنية التحتية في لبنان في آذار/ مارس 2018 لائحة المشاريع المرشّحة للاستثمار. وتناوب الوزراء والمستشارون كلٌّ في مجاله على استعراض الوعود بالتطوير الذي ستخلقه هذه المشاريع تحت مظلّة الشراكة مع القطاع الخاص. وبدت بوضوح الجهود المبذولة لجعل هذه المشاريع تبدو في حالة الجاذبية القصوى للمستثمرين مع دعوات علنية للقطاع الخاص للتمويل والتنفيذ وتشغيل هذه البنية التحتية لتخفيف العبء التمويلي عن كاهل الدولة والاستفادة من خبرات القطاع الخاص وإمكاناته.
تحدث وزير الأشغال العامّة والنقل عن ضرورة تحديث المطار وتطويره، وتوسعة المبنى الداخلي والخارجي لزيادة القدرة الاستيعابية من 6 ملايين إلى 8 ملايين مسافر، عبر استحداث جناح جديد للركّاب بغرض تشجيع السياحة ورفع مستوى الخدمات. وأكّد أن الوزارة تعوّل على قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص في ملف الطيران لتأمين التمويل اللازم للمشروع، وذلك «خدمة لهدف واحد هو التركيز على وضع السياسات المطلوبة في قطاع الطيران».

79

هي مرتبة لبنان على مؤشّر الأداء اللوجستي لعام 2018 الذي يقيس مجموعة من العوامل أبرزها جودة البنية التحتية، وسهولة الشحن الجوي، وجودة الخدمات اللوجستية. وهذه المرتبة هي دون المعدّل الوسطي لبلدان الشرق الأوسط


وهنا بيت الداء. فالتنمية الوطنية للبنية التحتية للطيران لا تُختصر بمشروع توسعة مطار. وإن كان الهدف هو الوصول إلى وضع السياسات العامّة للنقل الجوّي واحتكامها لمعايير الإدارة الرشيدة، فهذا لا يتمّ تحقيقه من خلال مشروع يتيم مفرّغ من مضمونه التنموي ومعزول عن إطاره المؤسّساتي، وينفّذ بالشراكة مع القطاع الخاص في بيئة تشغيلية غير ناضجة.
عدم وجود هيئة ناظمة للطيران المدني، على الرغم من صدور قانون إنشائها منذ 17 عاماً، يُفقد الدولة القدرة على الإشراف والرقابة على قطاع النقل الجوّي عموماً وعلى المستثمرين في المطارات خصوصاً، إذ إن هيئة الطيران المدني هي الجهاز الرسمي المسؤول عن إصدار تراخيص التشغيل وتصديق أسعار الخدمات والتعرفات وفرض الغرامات وتعليق أو سحب التراخيص عند مخالفة المشغّل لشروط العقد. فعند وقوع أي أعطال تشغيلية وتراجع في جودة الخدمات، يصبح تحديد وتعقّب المسؤولية بين أطراف الشراكة عملية شبه مستحيلة. وبما أن شركات المشاريع لا تخضع لرقابة ديوان المحاسبة، فإن ذلك يتيح أمامها وأمام المستثمرين التفلّت من أي رقابة مُسبقة ولاحقة على إدارة وتشغيل المطارات والمرافق والأموال العامّة المُتعلّقة بها.
وما يزيد الأمور تعقيداً، هو أن جميع الاتفاقات التي تعقد مع الصناديق الدولية لتمويل مشاريع تطوير المطارات وتأهيلها تشترط بصورة أساسية إيجاد بنية مستقلّة للمطارات تتمتع بقواعد العمل التجاري وعناصره ومستلزماته. وتشترط أيضاً وجود جهاز يتمتّع بالاستقلالية المالية والإدارية لتجهيز مطار بيروت واستثماره. وهذا الإطار المؤسّساتي غير موجود حالياً ويتطلّب تأسيس شركة مساهمة تُسمّى «مؤسّسة مطار بيروت الدولي»، تخضع لأحكام الشركة المُغفلة في قانون التجارة. عملياً، إن عدم وجود هذه الهيكلية يُضعف من قدرة لبنان على الاستفادة من عائدات مشاريع استثمار المطارات وتطويرها.

شروط مُسبقة لإنجاح مشاريع الشراكة في قطاع النقل الجوّي
مشروع إعادة تأهيل وتوسعة وتشغيل مطار الملكة علياء الدولي في الأردن، هو من مشاريع الشراكة الأولى في المطارات في الشرق الأوسط، وفق نظام الـBOT، بامتياز مُنِح إلى «مجموعة المطار الدولي» لمدة 25 عاماً.
يستند البنك الدولي إلى نجاح هذا المشروع ويعتمد عليه كنموذج للتسويق لمبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مشاريع تطوير المطارات. ويُخطئ من يظن أن نموذجاً ناجحاً لمشروع شراكة ما في بلد ما، من المُمكن نسخه وتطبيقه، مع توقّع الحصول على النتائج الإيجابية نفسها.


قامت المملكة الأردنية الهاشمية بخطوات عديدة، منذ عام 2005، لضمان الاستفادة القصوى من مشروع مطار الملكة علياء الدولي، بدءاً من تعديل أنظمة وقوانين الطيران المحلّية، وتنفيذ إصلاحات إدارية، وإنشاء هيئة تنظيم الطيران المدني وهيئة رقابة اقتصادية، وتأسيس شركة المطارات الأردنية، وخصخصة الناقل الوطني، وإصدار تراخيص لشركات نقل جوّي جديدة، وصولاً إلى إقرار سياسة الأجواء المفتوحة وتوقيع إتفاقية الطيران اليورومتوسطية مع الاتحاد الأوروبي عام 2010.
أمّا في لبنان، فخارطة الطريق لتطوير قطاع النقل الجوّي مُتعثّرة وتصطدم بعقبات تشريعية (عدم نفاذ قوانين تنظيم قطاع الطيران)، وعقبات إدارية (غياب الهيكلية الإدارية الحديثة وغياب الاستقلالية الإدارية)، وعقبات تشغيلية (عدم الفصل بين الرقابة والتشغيل وندرة الكوادر البشرية الكفوءة)، وعقبات مالية (عدم الاستقلالية المالية وضعف القدرة التنافسية التسعيرية)، وتحدّيات سياسية أيضاً، بالإضافة إلى عوامل أخرى موجودة في البيئة المحلّية الكلّية macroenvironment، تؤثّر بشكل مباشر على استعداد لبنان وقدرته على الاستفادة من مشاريع الشراكة والاستثمار في البنية التحتية.
يتعلّق بعض هذه العوامل بمؤشّرات لوجستية، وبعضها الآخر بعوائق القيام بالأعمال في لبنان. فوفقاً لتقرير الأداء اللوجستي الصادر عن البنك الدولي عام 2018، هبط لبنان إلى ما دون المعدّل الوسطي لدول الشرق الأوسط، متراجعاً من المركز 33 إلى المركز 79 عالمياً. ويقيس المؤشّر المذكور الأداء اللوجستي للدول من خلال دراسة 6 عوامل هي: جودة البنية التحتية، مراقبة الحدود والجمارك، التتبع والتعقّب، سهولة الشحن الجوي، جودة الخدمات اللوجستية والدقّة في التوقيت.
أيضاً، وضع المنتدى الاقتصادي العالمي لائحة بالعوامل الأكثر إشكالية، وتؤثّر مباشرة على بيئة الأعمال وأداء القطاعات المهنية في لبنان. وجاءت اللائحة على الشكل الآتي: غياب الاستقرار السياسي، الفساد، عدم كفاية البنية التحتية، البيروقراطية الحكومية، ضعف السياسات العامّة، التضخّم المالي وارتفاع المعدّلات الضريبية.

كل ما تقدّم، يضع لبنان في حالة عدم الجاهزية للاستفادة القصوى من نِتاج مشاريع الشراكة. لكن لتحقيق نتائج أفضل، يتعيّن على الحكومة تعزيز القدرات التنظيمية والتشغيلية لمؤسّساتها والهيئات الرسمية المُشرفة على الاستثمارات والمشاريع. وقد لا يكون هذا هو الطريق الأسهل، إلّا أن وضع الأطر المؤسّساتية على نحو صحيح هو الخطوة الأولى المهمّة لأي بلد يسعى إلى الاستفادة من برنامج الشراكة واكتساب الخبرة وتحقيق نتائج إيجابية مستدامة.

في الختام
أخفق القيّمون على قطاع الطيران المدني في لبنان في تقديم رؤية إنمائية شاملة ترشّد الاستثمار في البنية التحتية للنقل الجوّي. وكما يبدو، فإن مشاريع الشراكة في هذا المجال غير قادرة على التمييز بين تنمية البنية التحتية من جهة، وتلزيم المشاريع من جهة أخرى، وهي تحصر تطوير البنية التحتية للطيران بمشروع توسعة مطار بيروت الدولي، من دون ربط هذه الاستثمارات بالسياسات العامّة للنقل والرؤية الاقتصادية للبنان محلّياً وإقليمياً.
لا يؤدّي توسيع المطار، بالضرورة، إلى تحسين جودة الخدمات. ولا تدفع زيادة القدرة الاستيعابية باتجاه تحقيق نموّ في حجم الطلب. ومن غير المضمون أن تؤدّي مشاريع الشراكة مع القطاع الخاص إلى زيادة العائدات المالية أو رفع الفعالية التشغيلية.
ما يحتاج إليه قطاع الطيران في لبنان هو رؤية توليفية، تأخذ الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بالاعتبار، وربط هذه الرؤية الشاملة بأجندة وطنية للتنمية، يكون اختيار المشاريع فيها وفقاً للأولويات الوطنية وخدمة للمصلحة العامّة والانسان في لبنان.

* خبيرة في الطيران المدني والتخطيط
* رئيسة مركز الشرق الأوسط لبحوث الطيران (MEARS)