واشنطن | جاريد كوشنر، زوج الابنة المدلل في بلاط ترامب، والباحث عن تمويلات لشركته العقارية، أصبح بقاؤه في البيت الأبيض «يُضِرّ» بالرئيس الأميركي، كما اعتبر رئيس الفريق الانتقالي خلال الفترة بين انتخاب ترامب رئيساً وتسلمه سلطاته والحاكم السابق لولاية نيوجيرزي كريس كريستي، أول من أمس. وقال في تصريح لشبكة «ايه بي سي»: «بالنسبة إلى جاريد وإيفانكا وأفراد العائلة الآخرين، أعتقد أنّ على الجميع أن يُركِّزَ على ما هو أفضل شيء للرئيس»، معبِّراً عن «الأسف»، إذ «بسبب المعركة الداخلية (في البيت الأبيض) والتسريبات (في الصحافة)، فإنّهم يضرّون بالرئيس».
إلا أنّ استثمارات كوشنر، وحاجته إلى مواصلة الاقتراض لتمويل المشاريع العقارية، كانت سبباً في تقليب صفحات ملفه بحثاً عن مبررات من شأنها إطاحته أسوة بغيره من مساعدي ترامب (يُعَدّ بعضهم حلفاء لكوشنر) الذين خرجوا أو أُخرجوا من البيت الأبيض، وكان آخرهم مديرة اتصالات ترامب هوب هيكس. كذلك غادر أخيراً حلفاء آخرون لكوشنر، بمن فيهم مستشار للمبادرات الدولية والتكنولوجيا ريد كورديش، ومساعدة مستشار الأمن القومى دينا باول، إضافة إلى المتحدث الشخصي لكوشنر، جوش رافيل، فيما تتناول الشائعات منذ أيام «قرب مغادرة» مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر.

استغلال المنصب


الكشف عن متاعب كوشنر بدأت مع نشر صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الأربعاء الماضي، تقريراً ذكرت فيه أنّه تلقى قروضاً لشركة عائلته العقارية بعد اجتماعات عُقدت في البيت الأبيض مع مؤسس شركة «أبولو غلوبال مانجمانت» جوشوا هاريس، الذي قام بزيارات منتظمة للبيت الأبيض منذ مطلع عام 2017 لتقديم المشورة لإدارة ترامب حول البنية التحتية، وتضمنت مباحثاته مع كوشنر منحه منصباً في البيت الأبيض، الأمر الذي لم يحدث. وفي تشرين الثاني الماضي، قدمت شركته قرضاً بقيمة 184 مليون دولار إلى شركة عائلة كوشنر لتسديد قرض خاص ببنايتها في شيكاغو. وسبق لكوشنر أيضاً، عقب اجتماعه في البيت الأبيض مع المدير التنفيذي لـ«سيتي غروب» مايكل كوربات، الحصول على قرض من المجموعة في آذار 2017 بقيمة 325 مليون دولار لتمويل مجموعة بنايات في بروكلين.
بصرف النظر عن تلك الاجتماعات، فإنّ خبراء في «أخلاقيات الوظيفة» يقولون إنّ النظرة العامة «سيئة»، وكان ينبغي لكوشنر ألا يعقد اجتماعات مع مسؤولي «أبولو» و«سيتي غروب» في حين أن شركته العائلية تسعى للحصول على قروض منهما. وتقول فرجينيا كانتر، وهي مسؤولة سابقة في «أخلاقيات الوظيفة» في البيت الأبيض في عهدي بيل كلينتون وباراك أوباما، وتعمل حالياً في منظمة «مواطنون من أجل المسؤولية وأخلاقيات الوظيفة»: «لم أرَ قطّ أحداً يستغل وظيفته لطلب قرض تجاري، أو يكون عرضة لدين مثل ترامب وكوشنر».
يوم الأربعاء الماضي أيضاً، ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أنّ مسؤولين من إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة والصين والمكسيك ناقشوا «سبل التلاعب» بكوشنر، من خلال استغلال عمله وصعوباته الاقتصادية وانعدام خبرته السياسية. وقالت الصحيفة إنّ ماكماستر علم بأنّ الأخير كان يقيم علاقات مع مسؤولين كبار في الدول الأربع، يريد منها أولئك البحث عن كيفية استغلال كوشنر عبر الاستثمار في «المجموعة» العقارية التي تملكها عائلته وتسخير النفوذ الناجم عن ذلك للحصول على بعض المكاسب في السياسات الأميركية، إلى جانب أنّ كوشنر لم يُبلِغ مجلس الأمن القومي بمحادثاته. وخشية تعرّض كوشنر لـ «الخداع» في محادثاته مع كبار المسؤولين الذين رفض بعضهم التحدث مع أشخاص ذوي خبرة أكثر منه، ونظراً إلى نقاط ضعفه وتكرار تقديمه بيانات كاذبة على تقرير الكشف المالي الخاص به، فقد قرر رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض جون كيلي، خفض تصنيف كوشنر الأمني، بما لا يسمح له قراءة الوثائق ذات التصنيف الـ «بالغ السرية»، ومُنع من دخول اجتماعات الإحاطة اليومية الاستخبارية مع الرئيس ترامب.
ولم يقتصر الأمر على كوشنر في خسارته للتصريح الأمني، بل إنّ زوجته، إيفانكا ترامب، هي الأخرى تواجه أسئلة مماثلة عن مستوى وصولها إلى «أسرار الأمة» عقب اجتماعها مع مسؤولين كبار من كوريا الجنوبية خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية الأخيرة.
لذلك، أضحى مصير كوشنر في إدارة ملفي الصراع العربي ــ الإسرائيلي والمكسيك موقع تكهنات وشكوك لناحية قدرته على الاستمرار بالتعامل مع أطراف هذن الملفين بعد فقدانه لمعلومات أولية حساسة. وهذا ما دفع المتحدث السابق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، نيد برايس، إلى القول إنّ كوشنر «لن يكون وسيطاً فعالاً في ملف الشرق الأوسط بعد الآن»، فيما دعت زعيمة الأقلية الديموقراطية في مجلس النواب نانسي بيلوسي، البيت الأبيض إلى إعفاء كوشنر على الفور، وقالت إن «وجوده هناك منافٍ للعقل، في الأساس».

التحريض ضد قطر


ثالثة الأثافي في سلوكيات كوشنر، تمثلت في ما كشفت عنه تقارير صحافية الأسبوع الماضي، عن أنّ مجموعة كوشنر كانت قد تقدمت بطلب إلى وزير المالية القطري علي شريف العمادي، في 27 نيسان من العام الماضي، للحصول على قرض مالي مباشر، وذلك خلال توقفه في نيويورك ولقائه تشارلز كوشنر، الأب، لهذا الغرض. بيد أنّ الصفقة لم تُبرم في حينه. كذلك، كان كوشنر قد اجتمع في شهر كانون الأول 2016 في «ترامب تاور» في نيويورك مع رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها السابق حمد بن جاسم، الذي وافق في البداية على الاستثمار بنحو 500 مليون دولار في مجموعة كوشنر التي كانت تعاني من ديون تقدَّر بقيمة 1.4 مليار دولار واجبة السداد في عام 2019، إلا أنّ بن جاسم تراجع في ما بعد.
في الشهر التالي، تحديداً في نهاية شهر أيار 2017، بدأت بوادر الأزمة الخليجية بين السعودية بالظهور، ولعب جاريد كوشنر «دوراً محورياً» في إقصاء قطر وفرض الحصار عليها، مدعوماً من الرئيس ترامب. وذكرت شبكة التلفزيون الأميركية «إن بي سي» يوم الخميس الماضي، نقلاً عن مسؤولين أميركيين، أنّ الوفد الوزاري القطري الذي ضمّ وزيري الخارجية والدفاع، ما بين شهري كانون الثاني وشباط الماضيين، عرض على فريق المحقق الخاص، روبرت مولر، استعداده لتوفير الأدلة على تورط كوشنر بالتنسيق مع الرياض وأبو ظبي في تشديد الحصار على الدوحة.
«نيويورك تايمز» قالت في افتتاحية بعنوان «نجم جاريد كوشنر بدأ يهوي»، إنّ «الرئيس ترامب كان يستطيع اختيار مبعوث محنّك يحظى بثقة جميع الأطراف المعنية وعلى اطلاع بتاريخ الشرق الأوسط لإدارة ملف مفاوضات السلام الفلسطينية ــ الإسرائيلية، ولكنه عيَّن بدلاً من ذلك وريث إمبراطورية عقارية غامضة تجمعه علاقات عميقة مع إسرائيل، كان قد أعلن أن الماضي لا يهمه كرجل أعمال».

«الأكثر جهلاً»


كافة الأميركيين اليهود الذين برزت أسماؤهم في الإدارات الأميركية المتعاقبة بناءً على مهاراتهم وقدراتهم منذ النصف الثاني من القرن الماضي، مثل لويس برانديس، والت روستو، هنري كيسنجر، كاسبار واينبيرغر، لورانس سمرز، روث بدر غينزبيرغ، وحتى رام إيمانويل الذي كان باراك أوباما قد عيّنه رئيساً لهيئة موظفي البيت الأبيض ــ وبعيداً عن نظرية المؤامرة ــ، فإنّ السبب وراء مشاركتهم في مناصب عليا في الحكومات الأميركية المتعاقبة يعود في جانب منه إلى نجاحهم في الحياة المهنية، سواء في المجال الأكاديمي أو القانون أو الأعمال التجارية أو السياسة نفسها. هذا لا يعني أنّهم كانوا جديرين أكثر من غيرهم في هذا الصعود، حتى جاء كوشنر ليقلب المعادلة.

يستخدم الرجل جهله كذريعة، فيما يخشى المسؤولون من أنّه قد خُدِع

صعوده لا علاقة له بما اتصف به سابقوه، إذ إنّ كوشنر هو من بين أكثر الشخصيات تأثيراً في الإدارة الأميركية، لكنه أول أميركي يهودي لا يحظى بأي مهارات وقدرات سياسية أو فكرية تؤهله لمنصبه، سوى أنه زوج ابنة الرئيس، وعلى شاكلة ترامب من حيث الاهتمام المشترك بالمال والأعمال. (لم يكن كوشنر طالباً متميزاً في المدرسة الثانوية، ولكنه حظي بالتسجيل في جامعة هارفارد بعدما تبرع والده بـ2.5 مليون دولار للجامعة وطلب من عضوين في مجلس الشيوخ الأميركي الاتصال بمكتب التسجيل بالجامعة لمصلحة ولده... وجدير بالذكر أنّ ويندي دينغ، زوجة ميلياردير الإعلام روبرت ميردوخ، قدّمته إلى إيفانكا ترامب).
يستخدم كوشنر جهله كذريعة. وفي شهادته أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي حول مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية وعلاقته مع الروس، دافع عن نفسه ضد الاتهامات الموجهة إليه بالتواطؤ مع الحكومة الروسية، بإقراره بأنّه في الأساس لا يعرف ما يكفي عن حكومة روسيا ليتعامل معها عن علم. وتقول «واشنطن بوست» إنّه لا عجب أن مسؤولي البيت الأبيض يخشون أن كوشنر كان «ساذجاً وجرى خداعه» في محادثات مع مسؤولين أجانب، قال بعضهم إنهم يريدون التعامل مع كوشنر مباشرة وليس مع موظفين أكثر خبرة. والآن فقد كوشنر تصريحه الأمني للوصول إلى معلومات «في غاية السرية» كمصدر حاسم للمعلومات عن الحكومات الأجنبية.
صعود كوشنر السريع يمثّل في حد ذاته «حالة خاصة» يمكن دراستها لناحية: كيف يمكن الثروة الكبيرة والسلطة إعادة إنتاج نفسيهما بغضّ النظر عن القدرة، خاصة في أميركا حيث يُعَدّ الصعود على نحو متزايد بمثابة أسطورة.