باريس | قبل خمسة أيّام من موعد الاقتراع، لا يزال الغموض يحيط بمشهد انتخابات الرئاسة الفرنسية. فبعدما كانت زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبن، ومرشح «اليسار الليبرالي»، مانويل ماكرون، يتصدران الاستطلاعات، منذ نهاية شباط الماضي، متقدميْن على باقي المرشحين بما لا يقل عن 10%، بدأ هذا الفارق يتقلص تدريجاً، وبالأخص منذ المناظرة التلفزيونية، التي جرت في 28 آذار الماضي.
شكلت تلك المناظرة علامة فارقة في الحملة الانتخابية، فقد كانت مناسبة لتسليط الضوء على برنامج كل مرشح بعدما طغت أخبار الفضائح المالية والملاحقات القضائية طويلاً على المشهد الانتخابي. ولم يلبث الثنائي لوبن ــ ماكرون أن تراجعا إلى أقل من 22% لكل واحد منهما، وذلك بعدما كانا يتنازعان صدارة الاستطلاعات بتقديرات بلغت أوجها في منتصف شباط بـ27% للوبن و26% لماكرون. في مقابل هذا التراجع، برزت ديناميكية جديدة سمحت لمرشحين آخرين، هما زعيم «فرنسا المتمردة» (اليسار الراديكالي)، جان لوك ميلانشون، ومرشح «الجمهوريين» فرانسوا فيون، بتحقيق قفزات متتالية خولتهما الاقتراب من عتبة 20%. أي أن الفارق بينهما، وبين لوبن وماكرون، أقل من هامش الخطأ في استطلاعات الرأي، المقدر بـ2%.
حيال هذا الوضع غير المسبوق، باتت الاستطلاعات عاجزة عن التنبؤ بالمرشحين الأوفر حظاً في الظفر بتذكرة المرور إلى الجولة الثانية من الانتخابات. ولا تقتصر أسباب هذا الغموض على تقارب شعبية المرشحين الأربعة الرئيسيين. فالمعادلة الانتخابية الحالية تتخللها مجاهيل عدة تزيد تعقيد مهمة استشراف النتائج أو التنبؤ بها. وفي مقدمة هذه المعطيات نسبة الممتنعين عن التصويت، التي تشير التوقعات إلى أنها تتجه نحو رقم قياسي يقارب 35%، بالإضافة إلى نسبة مقاربة (30% إلى 40%) من «المترددين»، أي الناخبين الذين يعتزمون المشاركة في الاقتراع، لكنهم لم يقرروا بعد لمن سيصوّتون.

الاستطلاعات
عاجزة عن التنبؤ بمن سيكمل العبور إلى الجولة الثانية

ويُرجح أن يلعب هذان العاملان دوراً فارقاً في ترجيح الكفة بين المرشحين الأربعة. وتشير التقديرات إلى أن غالبية الممتنعين عن التصويت هم من فئة الشباب القليلي التأهيل العلمي، ممن أعمارهم دون 35 سنة. فنسبة المشاركة في الاقتراع لدى هذه الفئة لن تفوق 30%، مقابل 75% بالنسبة إلى عموم الناخبين، ما سيشكل ضربة قاسية لمرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبن، التي تشكل فئة الشباب المخزون الانتخابي الأبرز لحزبها، كما أوضحت ذلك نتائج انتخابات الرئاسة لأعوام 2002 و2012. آنذاك، حقق اليمين المتطرف أحسن نتائجه، فيما يرجح الخبراء أنّ هذه النسبة المرتفعة من الممتنعين لدى فئات الشباب، إذا تأكدت، ستؤدي إلى إقصاء لوبن منذ الجولة الأولى من الاقتراع.
أما عن المترددين، الذين سيلعبون دوراً حاسماً في تحديد نتائج هذه الجولة من الانتخابات، فيراهن الخبراء على معطيين: الأول تقليدي، يصدق على جميع الاستحقاقات الرئاسية. والثاني معطى مستجد، يرتقب أن يشكل واحدة من تقلبات الحملة الانتخابية الجارية. وجرت العادة أن يصبّ تصويت الناخبين المترددين في مصلحة المرشحين «الخوارج»، الذين يبرزون في خلال الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية. هؤلاء «المترددون» لا ينتمون إلى حزب أو تيار سياسي معين، ولا يحددون خياراتهم بناءً على المعطيات الأيديولوجية التقليدية (يمين/ وسط/ يسار)، بل يتفاعلون مع الديناميكية التي تفرزها تطورات الحملة الانتخابية، ويركبون الموجة الأكثر تأثيراً في الأيام الأخيرة من الحملة.
من هذا المنطلق، يعتقد الخبراء أن المستفيد الأكبر من ظاهرة الناخبين المترددين سيكون، بلا منازع، جان لوك ميلانشون. فهو حقق قفزة مذهلة في خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة ليصل إلى عتبة 20%، بعدما كانت شعبيته حتى نهاية آذار الماضي لا تتجاوز 9%. ومن العوامل الأبرز التي تجتذب الناخبين المترددين في البرنامج السياسي لميلانشون، توافق رؤاه مع ظاهرة «المكنسة الانتخابية»، التي أطاحت ساركوزوي وجوبيه ثم أقصت هولاند وفالس، آملاً في تغيير الوضع السياسي القائم والانقلاب على الاستبلشمنت السياسي الميهمن في فرنسا منذ ثلث قرن، وهو ما يترجمه برنامج ميلانشون عبر الدعوة إلى استفتاء شعبي لإقامة جمهورية فرنسية سادسة تمنح صلاحيات أكبر للشرعية الشعبية ضمن نظام برلماني يحد صلاحيات الرئيس، وما يسميه مرشح «فرنسا المتمردة» «الطابع الملكي لمؤسسات الجمهورية الخامسة».
لكن الاستطلاعات الأخيرة أبرزت معطى آخر غير متوقع بالنسبة إلى ظاهرة المترددين، إذ تبين أن 20% من الناخبين الذين صوّتوا لساركوزي في انتخابات 2012، لا يزالون مترددين في حسم خياراتهم بخلال الاستحقاق الجاري. هذا المعطى يشير بوضوح إلى أن الشك بدأ يدب في أوساط ناخبي اليمين الليبرالي، الذين التحقوا بماكرون، وتخلوا عن مرشح «الجمهوريين»، فرنسوا فيون، بسبب توجهاته الكاثوليكية المحافظة، أو بسبب الفضائح المالية التي طاولته في الأشهر الأخيرة.
وسجل فيون في خلال الأسبوعين الماضيين تقدماً ملحوظاً يؤكد أن هؤلاء «الناقمين» بدؤوا بالفعل العودة إلى معسكر اليمين التقليدي. وهو ما سمح لفيون بأن يستعيد المكانة التي كان يحظى بها غداة فوزه بالانتخابات التمهيدية، أي نحو 19% إلى 20%. فيما انعكس ذلك سلباً على شعبية ماكرون، إذ تراجع في الأسابيع الأخيرة من 26% إلى 24%.
هذه الديناميكية المزدوجة التي سمحت لميلانشون ولفيون بالبروز مجدداً تهدد بقلب الطاولة على المرشحَين اللذين كانا متصدرين منذ بداية الحملة. فهل يعني ذلك أن «المكنسة الانتخابية» ستضرب مجدداً في اقتراع الأحد المقبل... لتُقصي لوبن وماكرون منذ الجولة الأولى؟