بحسب المعاجم، "العِدّان" هو زمان الشيء. أما في القرى والبلدات فهو نظام الري. كان في بلدة المتين المتنية ناطوران يسهران على توزيع مياه "نبع السِّد" المتدحرجة من علو يناهز 1600 متر في قناة بدائيّة التوليف تكرّ كرّا محكماً باتجاه المتين. يبدأ عمل الناطورين في بداية تموز وينتهي مع موسم هطول الأمطار في شهر تشرين الثاني.
كانا يوزّعان مياه "القناية" على المزارعين بحسب ما اتَفق المتينيون في ما بينهم يوم سنحت لهم ظروف الاتفاق عندما انتقلت الملكية اليهم في منتصف القرن التاسع عشر بالشراء أو بوضع اليد . فتحولوا من فلاحين ورعيان وحرفيين إلى ملاكين مزارعين مع انهيار النظام الإقطاعي و"قصر يد" آل أبو اللمع في حماية أملاكهم، فأهملوا ما كان بعيداً عن العين والقلب من أراضيهم.
صار الجرد ملكاً للناس كما صارت المياه جزءاً من الأملاك فيُوَرَّثان ويُباعان ويقسّمان معاً في حال تعدد الورّاث.

كيف تكر المياه؟

تكرّ مياه السّد (الترابي) المتجمّعة بجوار طريق المروج عينطورة في محلة تدعى بشلاما. تنطلق من هناك نزولاً لتروي من الشرق الى الغرب وعبر فتحات متتالية موزّعة عرضياً بين جنوب المتين وشمالها، بين "مدرسة الرهبان" و"خندق الرهبان"، و"الصفحة" و"عين القصب" وسواها من الحيارات المزروعة خضاراً وثماراً بين حزيران و"التشارين".
ولا تكرّ مياه السد على هواها، أو على ما يشاؤه النواطير، أو على ما يأمر به أصحاب النفوذ من الملاكين الكبار... بل تكرّ ثم تدار وفق نظام صارم هو "العدّان" أي 383 ساعة مياه (والساعة ستون دقيقة) توزّع على كافة الملّاكين بحسب ما لديهم من أشجار توت (كراخين حرير) وطواحين وأراض تقاس مساحتها بأيام الفلاحة على الفدّان.

تغير النظام

كان "العدّان" من مياه السّد يستمر 15 يوماً و23 ساعة ري. ثم تعاد الكرة انطلاقاً من بشلاما وبالاتجاهات ذاتها لِـ 15 عشر يوماً و23 ساعة أخرى... وهكذا دواليك حتى انقضاء موسم الري.
عام 1945 غيّر الملّاكون المتينيون (بالتوافق) نظام "العدّان". فصارت الوحدة الزمنية (أي الساعة) 40 دقيقة بدل الستين وصار "العدّان" يستمر 10 أيام و15 ساعة وعشرين دقيقة، فإذا بالمزروعات تروى كل عشرة أيام بدل 15 يوماً. كان في هذا الأمر حكمة. فخلال شهر تموز حيق "تغلي فيه المياه في الكوز" وفي شهر "آب اللهاب" كما كان يقال عن ذينك الشهرين، حيث تبلغ فيهما الحرارة ذروتها.
لقد تعطل هذا النظام مع وخلال وبعد الحرب (1975-1990). ضُمّت مياه نبع السد والسكر الى بقليع، فكونت جميعها مياه الشفة التى تدخل الى منازل المتينيين فيستعملونها لمختلف مقتضيات حاجاتهم على تنوعها وأُلغيت قناة الجر التي كانت تروي المزروعات أيام الصيف. وفي ذلك شيء من عدم الإنصاف لأن ملكية مياه نبع السد تتفاوت بين مالك صغير ومالك كبير. وكبار ملاكي المياه كانوا اللمعيين وآل عقل وبعضاً من آل الناكوزي وسواهم بحسب تدرّج ملكية "ساعات الجر" وفقاً لمضبطة المياه كما تحدّدت عام 1861 (كانت ساعات العدّان تُشرى فتنتقل من مالك الى آخر).

تم إنشاء بحيرة ضمن الأملاك العامة بمساحة 2300 م2 وسرقة مياه عدّة ينابيع

لهذا أجريت تعديلات كثيرة على المضبطة بين عام 1861 وحتى فترة توزيع المياه على المتينيين بالتساوي وإلغاء قناة الجر في نهاية حرب لبنان (1975- 1990). غير أنه وبشيء من التضامن القروي غضّ كبار الملاكين المتينيين قبل صغارهم النظر عن هذا الموضوع وقبلوا أن توزع المياه على المتينيين بالتساوي على المنازل ليستفاد منها في الشرب والزرع معاً.

التلاعب بالأسس

ولكن، خلال الحرب الأخيرة 1975-1990، جرى التلاعب في الأسس التي كانت تدار بموجبها أمور الري. أول التلاعب كان بإخفاء الخريطة الأساسية لمنطقة السد. والقصة هذه نرويها كما جاءت في تقرير الخبير المحلف خليل نون الذي عينه قاضي الأمور المستعجلة في المتن، الرئيس أنطوان طعمة، للنظر في أحوال مياه وممتلكات السد وذلك بطلب من مختاري المتين مارون الناكوزي ووليد القنطار.
يقع الخزان الأساسي لمياه المتين في منطقة السد وقد احتوت هذه المحلّة على خمسين نبعاً مصدرها الثلوج ومياه الأمطار. وقد حماها أصحاب الملكيات الكبرى من التلوّث عبر إحاطتها بحوالى 165 ألف متر مربّع من الأملاك التي تنازلوا عنها فصارت عامّة و"براحات" (وهي أملاك خاصة ارتضى ملاكوها أن يحظّر البناء عليها).
لقد حُصّن هذا الاتفاق القروي العملي بمرسوم جمهوري على عهد الرئيس بشارة الخوري حمل الرقم 2782/ك بتاريخ 10 آذار عام 1945 أُرفق بخريطة مساحة ومحضر حدود أودعا وزارة الأشغال. وقد حدّدت الخريطة مواقع الأملاك العامّة ومواقع "أحرام المياه" ومواقع البراحات، كما بيّنت موقع الينابيع وخطوط جريانها حتى وصولها إلى مجرى المياه الرئيسي.

التزوير والتعدي على الينابيع

في عزّ الحرب، وبينما كان أهل المتين مشغولين بتدبير أمورهم التهجيرية الكارثية كانت "الأفاعي" تزحف في الجرد للتعدّي على ينابيع السّد.
كانت الخطوة الأولى على طريق التعدّي إخفاء الخريطة الأصليّة المرفقة بالمرسوم الجمهوري. وقد تمّ إخفاء الخريطة أولاً من وزارة الأشغال حيث كانت مودعة، كما أخفيت من الدوائر الرسمية الأخرى.
أما الخطوة الثانية فكانت في تزوير وتحوير الخريطة المرفقة بالمرسوم الجمهوري 2782/ك.
الخطوة الثالثة كانت بإعطاء التزوير طابعاً رسمياً وقد تمّ ذلك عبر: مهر الخريطة المزوّرة بختم بلديّة المتين مع عبارة طبق الأصل والتوقيع عليها. ومهر الخريطة المزوّرة بختم المكتب الفنّي في التنظيم المدني في المتن مع عبارة طبق الأصل والتوقيع عليها. فجاءت نتائج التزوير مدمّرة لجهة التعدّي على الأملاك العامة والينابيع.

تقليص الأملاك العامة!

لقد قلّصت الخريطة المزوّرة الأملاك العامّة بنسبة 35% (حوالى 32 ألف متر مربّع) وألغت البراح كلّياً ومساحته 75 ألف متر مربّع. وخلقت ينابيع وهميّة لا وجود لها على أرض الواقع.
صُدّقت محاضر المسح للواقع الجديد المزوّر تباعاً في أعوام 2006 و2009 و2011 وتحوّل التعدّي من مؤقت إلى نهائي.
أعلم المخاتير والأهالي في 28/11/2016 بلديّة المتين ومشيخا بالتعدّي الحاصل وطلبوا من البلديّة اتخاذ التدابير القانونية والقضائية اللازمة، وقد تمّ تقديم كتاب للبلدية بهذا الموضوع سجل في البلدية برقم 1311. وبقي هذا الكتاب دون جواب.
ونظراً إلى عدم تجاوب البلدية، تقدّم مختارا المتين وليد القنطار ومارون الناكوزي من قاضي العجلة في المتن بطلب تعيين خبير لكشف التعدّي على الأملاك والينابيع، فصدر قرار 40/2017 بالاستجابة لقرارهما.

تقرير الخبير القضائي

أثبت تقرير الخبير القضائي الوقائع كافة التي سردناها أعلاه إضافة الى الوقائع المهمّة التالية: لقد ساهمت بلدية المتين في شق الطرقات العامّة والخاصّة داخل الأملاك العامة وبمحاذاة الينابيع ومجاري المياه وقطّعت أوصالها وذلك بتاريخ لاحق لسنة 2014. كما أقدمت البلديّة على تعبيد هذه الطرقات وزرع عواميد الكهرباء بتاريخ لاحق لسنة 2014. ثم استحدثت جسراً من الباطون على مجرى المياه للمرور الى أملاك كانت عامّة وأصبحت خاصّة بتاريخ لاحق لسنة 2014.
ثم تم إنشاء بحيرة ضمن الأملاك العامة بمساحة 2300 م2 من قبل أحد المتعدّين الملاكين وذلك لسرقة مياه عدّة ينابيع بعد عام 2013 بدون أي رادع من قبل البلديّة كما أعطت رخص بناء وإسكان لأبنية ضمن الأملاك العامّة برغم من وجود إشارات على إفاداتهم العقارية!

علامات استفهام حول البلدية

والعجب في أن ترفض بلدية المتين ومشيخا تسليم الخبير القضائي المستندات والخرائط المتعلّقة بينابيع السد والأملاك العامّة، كما رفضت الجواب على أي سؤال من أسئلة الخبير الخطيّة والتي سجّلها في البلدية برقم 221 تاريخ 11/3/2017، ما أدى الى عدم تسهيل مهمّة الخبيرفي كشف الحقيقة.
بعد عدم التجاوب الكلّي من قبل بلديّة المتين ومشيخا أصدر قاضي العجلة قراراً بتكليف بلدية المتين ومشيخا بتسليم المستندات للخبير والجواب على أسئلته... وبالرغم من ذلك رفضت البلدية الجواب.
إن ما حصل يلقي العديد من علامات الاستفهام حول موقف البلدية المعارض لتسليم المستندات ومساعدة الخبير على كشف التزوير.
ومن ناحية أخرى، فقد اعترف رئيس فرقة التحديد والتحرير الذي أجرى "المساحة" في المتين عبدالله حدّاد بحصول التعدي (وهذا مثبت في تقرير الخبير) على الأملاك العامة أثناء عملية المسح بموجب محضر رسمي موقع منه أمام الخبير، وأبدى استعداده للدلالة على مواقع الينابيع والعقارات المعتدى عليها. كما سلّم حدّاد الخبير خريطة مطابقة للخريطة الأصليّة تبين مواقع الينابيع والأملاك العامّة، مناقضة للخريطة المزوّرة المتداولة.




حراك 23 تشرين المدني

تأسس في 23 تشرين الماضي، حراك مدني، وهو كناية عن تجمع مواطنين من بلدة المتين هدفه حثّ المسؤول على الإسراع في تلبية حاجات المتين الإنمائيّة والدفاع عن حقوق المتينيين. وكشف الإهمال الحاصل وكل من ساهم عن قصد أو عن غير قصد في التعدي على أملاك المتين العامة وبراحاتها وينابيعها. وإعلام الرأي العام اللبناني عامة بهذه القضية عملاً بحق الناس في معرفة ما يجري في بلادنا من إجرام أو إهمال أو تضليل أو إثراء غير مشروع، على حساب الطبيعة والإنسان... وبالتالي التنبّه الى ما يمكن أن يحاك في سائر المدن والقرى والدساكر. وقد رفع الحراك شعار "مياهنا وأملاكنا العامّة حق لأولادنا والأجيال المقبلة... فلنحافظ عليها".