يبدو أن احتمالات الصدام بين القوات الأميركية و«الحشد الشعبي» باتت أكبر من أي وقت مضى. هذا ما توحي به الأجواء المسيطرة على أوساط الأخير، والتي تقدّر أن وقوع مواجهة من هذا النوع أضحى لا يتطلب أكثر من «احتكاك»، سرعان ما سيتحوّل إلى اشتباك موضعي، من شأنه التأسيس لمرحلة جديدة يحلو للبعض توصيفها بأنها «عودة إلى حقبة 2003»، إبان انطلاق المقاومة ضد الاحتلال الأميركي.
هذه المواجهة التي سبق لكثيرين أن توقعوها عقب إعلان الحكومة «الانتصار العظيم على تنظيم داعش في العراق»، تسوق مصادر «الحشد» مبررات كثيرة لاستعجالها الآن. مبررات يتصدرها «فشل حيدر العبادي وحكومته في إخراج القوات الأجنبية من العراق بعد الانتهاء من الحرب على تنظيم داعش، على الرغم من تأكيداته المستمرة أمام عدد من زواره أن الأميركيين يجب أن يخرجوا من البلاد، كونهم قوات احتلال ونتعامل معهم على هذا الأساس». تضيف المصادر، إلى ما تقدم، حقيقة «التمدد الأميركي المتنامي في البلاد، وإعلان واشنطن بقاء قواتها لفترة طويلة، مع انتفاء حاجة بغداد للقوات الأجنبية ــ بمختلف مسمياتها ــ منذ انتهاء استعادة مدينة الموصل، وتحوّل تلك القوات (الأميركية أولاً، وقوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن ثانياً) من عامل (مساعد) في المعارك إلى عبءٍ بل مشاركٍ لتنظيم داعش في استهداف القوات الحكومية، والحديث هنا لا يقتصر فقط على الأشهر الأخيرة من الحرب ضد التنظيم، بل منذ الأيام الأولى من الحرب في أيلول 2014».
تزيد المصادر، في حديثها إلى «الأخبار»، أن «الفصائل باتت محرجة أمام جمهورها، فهي ترفع شعار مقاومة الاحتلال منذ تأسيسها، إلا أنها لم تقم منذ 2011 (تاريخ انسحاب القوات الأميركية من العراق) حتى اليوم بأي عملية نوعية ضده، مكتفية بالتشديد على أنها جاهزة لمواجهة قوات الاحتلال»، بينما يقول آخرون إنّ «أي اشتباك مع الأميركيين اليوم سيكون مادة دسمة للدعاية الانتخابية للفصائل التي تخوض الانتخابات ضمن كتلة واحدة هي (الفتح المبين)».

تشهد مناطق الانتشار
الأميركي جاهزية عالية لفصائل المقاومة

تتابع المصادر أن «علاقة الفصائل في ما بينها تُعدّ هي الأخرى واحداً من عوامل المواجهة، إذ إن ما بين الفصائل حالة من التنافس الإيجابي، قد تتحول إلى تنافس سلبي. بتعبير آخر، تحتاج الفصائل إلى قضية مشتركة، تتحول بموجبها برامجها العملية وسياساتها التنفيذية المتناثرة إلى رؤية واحدة، تنصبّ على مواجهة العدو، وهذا ما يفرض الاتحاد في مواجهة القوات الأميركية على قاعدة (حلف مفروض خير من فرقة أكيدة)». وتختم المصادر حديثها بالإشارة إلى ما تسميه «الغطاء الإيراني» لقيادة «الحشد» وفصائل «المقاومة»، و«الذي يحضّ الأولى على وضع الخطط واستراتيجيات المواجهة، فيما يحفّز الأخيرة على الالتزام بتلك الخطط، والعمل على تعزيز عوامل القوة، ومعالجة عناصر الضعف، تمهيداً لخوض المواجهة من موقع المهاجم المنتصر لا من موقع المدافع المفروض عليه التصدي». هذا «الغطاء الإيراني» الذي يتكثف الحديث عنه، سُجّل بعض من مؤشراته خلال الأيام القليلة الماضية، خصوصاً في التصريحات التي أطلقها مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، عقب لقائه نائب الرئيس العراقي، نوري المالكي، في بغداد، حيث دعا «جبهة المقاومة إلى اعتراض انتشار القوات الأميركية بشكل تدريجي شرق الفرات»، محذراً من «مخططات الإدارة الأميركية لبثّ الفرقة والخلافات في المنطقة»، فيما نبّه المالكي إلى مساعي واشنطن لإيجاد «موطئ قدم جديد لها في العراق»، مشدداً على ضرورة عدم السماح للأميركيين بالانتشار في شرق الفرات، لأن من شأن ذلك «إضعاف جبهة المقاومة، لا سيما إيران». وفي السياق نفسه أيضاً، تفيد بعض المعلومات بأن ثمة بالفعل ضوءاً أخضر إيرانياً لخوض مواجهة مع الأميركيين، إلا أن محددات تلك المواجهة، سواء لناحية الفصائل المشاركة أو حدود الاشتباك أو زمانه ومكانه، لا تزال قيد الدرس.

سيناريوات الاشتباك

هذه التفاصيل تتحفّظ معظم مصادر «الحشد» على تقديم إجابات وافية بشأنها، إلا أن بعض المعلومات المتوافرة تتيح تكوين صورة أولية للمواجهة المرتقبة. في السبب المباشر للاشتباك، يبدو أن «الفصائل» تتفادى الظهور بمظهر «مفتعل المواجهة»، ولذا فهي تنتظر «تجاوزاً أميركياً واضحاً وموثقاً بحقها»، يمنحها فرصة المبادرة في «رد معقول»، وهي التي تشدد دائماً على حقها في الرد على تجاوزات الأميركيين ضدها، والتي وصل بعضها حدّ الاستهداف المباشر، وإيقاع قتلى وجرحى، كما حدث قبل أيام في المنطقة الحدودية مع سوريا.
في مسارح العمليات المحتملة، تفيد معلومات «الأخبار» بأن المناطق الشمالية (محافظة نينوى ومحيطها) والغربية (محافظة الأنبار ــ على طول الخط الحدودي مع سوريا) تشهد جاهزية عالية لفصائل المقاومة إزاء تحركات القوات الأميركية من قواعدها وإليها. هناك، تترقّب الفصائل «زحطةً» أميركية (قد تُستدرج القوات الأميركية إلى فخّ تنصبه الفصائل لها) حتى تقابلها برد مباشر ومحدود، لكنّه سيكون «قاسياً»، وفق تعبير مصدر ميداني مطلع. هذا الاحتكاك قد يستحيل اشتباكاً بين الطرفين، إلا أن المؤكد أن رقعة المواجهة ستبقى مضبوطة، على اعتبار أن الهدف هو «إيصال رسالة مدوية لا أكثر».
يبقى أن ثمة إشكالية متصلة بكون «هيئة الحشد الشعبي» جزءاً من «قيادة العمليات المشتركة» التابعة لرئاسة الوزراء، التي لا ترى في القوات الأميركية قوات احتلال، فكيف تستطيع «الهيئة» اتخاذ قرار بالمواجهة مع الأميركيين؟ تجيب مصادر «الحشد» بالإشارة إلى أن الفصائل الأساسية المشكلة للأخير لها باع طويل في مقاومة الاحتلال الأميركي، وعقيدتها القتالية وإيمانها بضرورة طرد الأميركيين من العراق «حاضران وبقوة»؛ وعليه، «ما من عائق أمام مقاتليها للعودة إلى قتال قوات الاحتلال». وتضيف المصادر أن «هذه المهمة لن يتولاها فصيل بعينه دون غيره، بل فصائل المقاومة كلها. حينئذ، يتخلص الحشد من أي إحراج قد يواجهه، فيُبقي على علاقة طيبة بالحكومة الاتحادية من جهة، ويلتزم بعقيدته الرافضة لعمل أي قوة أجنبية في البلاد تحت أي عنوان أو ذريعة من جهة أخرى».

ماذا تقول الحكومة؟

ترفض مصادر حكومية أيّ حديث عن مواجهة مع الأميركيين، مشددة على أن الوجود الأميركي في العراق «شرعي، لأنه بطلب عراقي، ويستهدف تدريب القوات الحكومية وتأهيلها، كما يأتي ضمن اتفاقية (التعاون الاستراتيجي المشترك) بين بغداد وواشنطن». وتتابع المصادر، في حديثها إلى «الأخبار»، أن «الأميركيين يعتبرون الوجود الإيراني في بلادنا غير شرعي أيضاً، لكننا ندافع عن هذا الوجود الكبير لأن الحكومة الاتحادية وافقت عليه، وبطلب منها أيضاً».
وترى المصادر أن «من يدفع إلى افتعال مواجهة جديدة في العراق يسعى إلى حرق البلاد بمعزل عن أهدافه، خاصة أن الحكومة الاتحادية (مع احتمال بقاء العبادي لولاية ثانية) تعمل على سحب العراق من المحاور المتصارعة في المنطقة، وتكريسه كجسر للتواصل بين دول الجوار». وتضيف أن «البلاد على أبواب انتخابات تشريعية (12 أيار المقبل)، والحديث عن أي تصعيد كهذا قد يؤدي إلى ضرب الانتخابات، والحماسة الشعبية تجاهها». وتختم المصادر الحكومية حديثها بالقول إن التلويح بالمواجهة «تصعيد لا مبرر له إطلاقاً، بمعزل عن توقيته، والجهة التي صدر عنها».