موازين القوى والتحالفات المستجدّة
يرتبط النمط المستجدّ من التحالفات الضيّقة بالتغيير الكبير والمتسارع في موازين القوى الإجمالية بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، وتداعياته على الوضع الدولي ومؤسّساته، وكيفية تعريف مختلف أفرقائه لمصالحهم والسياسات الكفيلة بحمايتها. أظهرت التطوّرات في العقدَين الماضيَين عجزاً متنامياً لدى الولايات المتحدة عن فرض الإجماع داخل المؤسّسات الدولية كالأمم المتحدة، حول السياسات التي تنوي اعتمادها عند تناقضها مع مصالح الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى. فهي فشلت في الحصول على تفويض من المنظّمة الدولية، للحرب التي شنّتها على العراق في 2003، نتيجةً للمعارضة الفرنسية - الألمانية - الروسية، فاضطرّت لإقامة «تحالف راغبين» للمباشرة بهذه الحرب. صحيح أنها تمكّنت من الحصول على هكذا تفويض في عام 2011 للعدوان على ليبيا، من خلال قرار مجلس الأمن رقم 1973 القابل للتأويل، والذي نصّ في الأصل على إقامة منطقة حظر جوّي فوق هذا البلد، بدعم من دول غربية وعربية، وفي غفلة من الدبلوماسيّتَين الروسية والصينية، لكنها أخفقت في استصدار قرار مشابه بخصوص سوريا، بفضل المعارضة الحازمة والمتكرّرة للدبلوماسيّتَين المذكورتَين بعد يقظتهما. وقد تجلّى ذلك العجز مجدّداً عندما سعت إلى استخدام «منظّمة الصحة العالمية» ضدّ الصين بعد جائحة «كورونا»، لكنها لم تستطع، فانسحبت إدارة ترامب من المنظّمة.
لا تحتكر الولايات المتحدة القدرة على نسج هذا النمط الجديد من التحالفات أو الائتلافات
لا ريب في أن الوزن السياسي والاقتصادي المتصاعد للصين وروسيا هو الذي يفسّر مثل تلك الإخفاقات الأميركية المتكرّرة، وكذلك الفشل الأنكى بالنسبة إلى واشنطن، والخاصّ بالقدرة على توظيف حلف «الناتو» لخدمة أغراضها الخاصة. فهي لم تقوَ على دفع بعض أعضاء الحلف البارزين كألمانيا وفرنسا إلى الانخراط في استراتجيتها الهجومية ضدّ الصين، ما يفسّر دفْعها أستراليا إلى إلغاء صفقة الغواصات التي عقدتها مع فرنسا واستبدالها بأخرى أميركية. والأمر نفسه ينسحب على مسعاها المستمرّ لضمّ أوكرانيا إلى الحلف، والذي لم يصل إلى نتيجة بسبب معارضة ألمانيا وفرنسا لهكذا خطوة مستفزّة لروسيا. أمام هذه الوقائع، المتّصلة بوجود مصالح مشتركة هامّة بين حلفاء لواشنطن من جهة، وبين موسكو وبكين من جهة أخرى، تحول دون اندفاعهم الأعمى خلف الأولى، تعمد الولايات المتحدة إلى تعميم مبدأ «تحالفات الراغبين» مع دول في مناطق مختلفة تتقاطع معها في المصالح والأولويات. غير أن هذا التوجّه المستجدّ ليس حكراً على الولايات المتحدة. فقد بادرت العديد من الأطراف الإقليمية إلى تعزيز تعاونها البيْني الناجم عن قناعتها بوجود مشتركات مصلحية حيوية. فالتعاون بين اليابان والهند وأستراليا، أو بين الأخيرتَين وفرنسا، قبل أزمة الغواصات، يتطوّر باطّراد بمعزل عن الولايات المتحدة، نظراً إلى مخاوف الدول المذكورة المشتركة من القوّة الصينية.
أحلاف متقابلة
لا تحتكر الولايات المتحدة القدرة على نسج هذا النمط الجديد من التحالفات أو الائتلافات الضيّقة لتعظيم مصالحها. الشراكة الروسية - الصينية المتنامية، والقابلة للتوسّع وضمّ دول أخرى كإيران وربّما تركيا في المستقبل، وفي ميادين اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية، مثال على ما تَقدّم. من بين التفسيرات التي طُرحت لـ«الرباعية الشرق أوسطية»، إضافة إلى طموحات أطرافها في جني المكاسب من التعاون في مجال التكنولوجيا واجتذاب الرساميل والأمن، هو رغبة أميركية - هندية مشتركة في صدّ «تسلّل» الصين الاقتصادي والمالي إلى الإمارات والكيان الصهيوني. لكن للصين ولروسيا علاقات متنامية اقتصادية وعسكرية مع بلدان كمصر، واقتصادية وربما عسكرية غداً مع السعودية، والبَلدان لم ينضمّا إلى الرباعية المشار إليها، ومن غير المستبعد في مستقبل متوسّط أن ينسجا شراكات ائتلافية مع أطراف إقليمية ودولية غير الولايات المتحدة، خاصة مع تراجع نفوذ الأخيرة. ومن نافل القول إن تعزّز هكذا اتجاه في العلاقات الدولية سيضاعف من وهن الأمم المتحدة ووكالاتها، ويُحوّلها إلى ساحة للمواجهة بين مثل هذه الأحلاف، وكذلك من وهن «الناتو» الذي لم تَعُد مصالح أعضائه تتطابق، كما كانت الحال خلال الحرب الباردة. النزاعات الدولية إلى احتدام، ومعها تتكاثر نوافذ الفرص المتاحة بالنسبة إلى الشعوب المظلومة في مواجهة عدوّها الرئيس الأميركي.