بداية الأسبوع الجاري، وضع ترامب تهديداته موضع التنفيذ، حين أعلن قراره خفض عديد القوات الأميركية في ألمانيا بمقدار النصف، بحجّة أن برلين «متخلّفة» عن سداد مساهمتها في «حلف شمالي الأطلسي»، فضلاً عن أنها تتعامل «بشكل سيّئ» مع الولايات المتحدة في المجال التجاري. بحسب الرئيس الأميركي، يبلغ عديد القوات العسكرية الأميركية المتمركزة في هذا البلد 52 ألفاً، لكنها ترتّب «كلفة باهظة على الولايات المتّحدة... لذلك، سنخفض العدد إلى 25 ألف عسكري». تشير أرقام البنتاغون إلى وجود نحو 35 ألف عسكري دائم في ألمانيا، هم عماد المساهمة الأميركية في «الأطلسي»، لكن عدد هؤلاء يمكن أن يصل، في بعض الأحيان، إلى 50 ألفاً بسبب عمليات التناوب. ويبدو أن السفير الأميركي المنتهية مهمّته في برلين، ريشارد غرينيل، أدّى دوراً مؤثّراً في هذا السياق، بعدما اتّخذ في العام الماضي خطاً صدامياً مع برلين، حين قال إن «أميركا لا تفهم لماذا لا تفي ألمانيا بالتزاماتها في حلف الناتو لمساعدة الغرب». وغداة الإعلان الأميركي، تحدّث وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، من بولندا، عن «أهمية» الوجود الأميركي في بلاده لأمن الولايات المتحدة وأوروبا على السواء، لافتاً إلى أن أي تغييرات في الهيكلية الأمنية في القارة «تحتاج بالتأكيد إلى بحث».
تتطلّع دول أوروبا الوسطى والشرقية إلى الولايات المتّحدة للوقوف في وجه النفوذ الروسي
استعاد الوجود العسكري الأميركي في ألمانيا أهمّيته خلال العقدين الفائتين مع تطلّع دول أوروبا الوسطى والشرقية إلى الولايات المتّحدة للوقوف في وجه النفوذ الروسي. وفيما تسعى وارسو، منذ وقت طويل، إلى تعزيز الوجود الأميركي على أرضها وتجري محادثات في هذا الشأن مع واشنطن، تمنّت أن يتم نشر بعضٍ من القوات الأميركية المقرَّر سحبها مِن ألمانيا في بولندا التي اقترح رئيسها، أندري دودا، العام الماضي، في حالة الاستجابة لمطلب بلاده، تسمية القاعدة الأميركية «فورت ترامب» امتناناً لنظيره الأميركي. ويبدو ترامب عازماً على المضيّ قدماً في توسيع الوجود العسكري الأميركي في وارسو. ولهذه الغاية، يتوجّه دودا إلى واشنطن الأسبوع المقبل لعقد قمّة رئاسية من المقرّر أن تناقش، إلى جانب «تعزيز التعاون» في مجالات الدفاع والتجارة والطاقة وأمن الاتصالات، تحريك قوات أميركية من ألمانيا إلى بولندا. وهذه المسألة، وإن كانت تقنياً قابلة للتنفيذ، إلا أن مِن شأنها أن تسعّر الخلافات مع موسكو، التي ستعتبر الخطوة بمثابة استفزاز يستدعي الردّ عليه. كذلك، رحّبت لاتفيا باحتمال نشر قوات أميركية في المناطق المحاذية لروسيا، وقال وزير الدفاع لديها، أرتيس بابريكس، إن بلاده «ترحّب بانخراط أميركي أكبر في أمن دول البلطيق، بما في ذلك القوات الأميركية المتمركزة هنا». الأمر نفسه ينطبق على ليتوانيا التي أمل رئيسها جيتاناس نوسيدا، أن «تبقى بعض القوات التي تعتزم الولايات المتحدة سحبها من ألمانيا في أوروبا»، مضيفاً إن بلاده «ستكون مسرورة باستضافة القوات الأميركية بشكل منتظم».
مسألة الانسحاب تقلق أيضاً الأمين العام لـ«الأطلسي»، ينس ستولتينبيرغ، الذي يتحدّث عن التهديد الصاروخي الروسي في وجه أوروبا. في الإطار ذاته، يحذّر القائد الأعلى السابق للقوات البرية الأميركية في أوروبا، بن هودجز، من أن الانسحاب سيكون «خطأً فادحاً» و«هدية» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «الوحدات الأميركية ليست موجودة في أوروبا لحماية الألمان»، فجزء من حلف «الناتو» مهمّته «حماية جميع الأعضاء، بما في ذلك الولايات المتحدة». ويلفت إلى أن ترامب يريد استهداف ألمانيا من خلال «ممارسة الضغط بالأمن»، ملمحاً إلى أن المطلوب صرف مثل هذا النوع من القرارات في السياسة، خلال الحملة الرئاسية وتحت شعار «أميركا أولاً»: «نعيد القوات من أفغانستان والعراق وألمانيا، رغم كون ذلك خطأً استراتيجياً». لكن رئيس الكتلة البرلمانية لحزب «اليسار» الألماني، ديتمار بارتش، كان له موقف مختلف، إذ دعا حكومة بلاده إلى أن «تقبل هذا الانسحاب بامتنان، وأن تُعدّ قريباً مع إدارة ترامب انسحاباً كاملاً للجنود الأميركيين. وعندما ينسحب الجنود، يتعيّن أن يأخذوا معهم في الوقت ذاته القنابل النووية الأميركية... سيكون لهذا فائدة إضافية تتمثّل في أن دافع الضرائب سيوفّر المليارات لأنه لن يتم شراء طائرات مقاتلة جديدة (من أجل هذه القنابل)».