يعطينا هذا الاستعراض فكرة عن الخلَل البنيوي الحقيقي في المنظومة الدولية الحاكمة، والتي طالما تبوَّأت الصدارة العالمية في المؤسّسات الديموقراطية والتقنيات الصناعية والتقدُّم في جميع المجالات الطبية وغيرها من التكنولوجيات، حيث تلجأ بريطانيا مثلاً إلى محاولة تطبيق نظرية حماية القطيع، عبر ترك الفيروس يتفشّى بين أغلبية المجتمع البريطاني، فَمَنْ هو متقدِّم في السّن يرتفع إلى علياء ربه، ومن هم من عُمْرِ الشباب يتفوَّقون على هذا المرض ويكتسبون المناعة... إنّها حالة الهستيريا العنصرية بأبشع صورها، ومشهدية نراها اليوم تتكرَّر، وكأن التاريخ يعيد نفسه فعلاً بأبشع صوره.
الرأسمالية النيوليبرالية المتوحِّشة، التي استباحت الكرة الأرضية منذ ما يزيد عن ثلاثين عاماً، بات واجباً عليها أن تستريح
الرأسمالية النيوليبرالية المتوحِّشة، التي استباحت الكرة الأرضية منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً، بات واجباً عليها أن تستريح اليوم وتخفِّف عن عبء هذا الكوكب الكثير من الأمراض والأضرار والأوبئة، التي نشرتها بكثافة بين الناس، وفي تدمير الطبيعة وتلوُّث الهواء وثقب طبقة الأوزون، لإعطاء المزيد من الفرص التي تريح الكوكب من عناء العولمة وتوحُّشها ومن ردمٍ للبحار وبناء العقارات وتضخُّمها، وطرحها في مضاربات الأسواق المنفوخة للربح الريعي غير المنتج وإفلاس البنوك وتضخيم القيمة الورقية وانهيار اقتصادات البلدان. وبات على العالم اليوم التفكير جدياً في ضرورة التخلُّص من هذه المَهْزلة، ومن هذه الهيمنة لزعماء المؤسسات في الدولة الأميركية العميقة وأجهزة استخباراتها التي لا تُقيم أي وزن للاعتبارات الإنسانية والأخلاقية والتدمير الممنهج للشعوب، لأنّه بحسب اعتباراتها هي مجرّد أرقام في معادلة الكسب والربح المادي السريع أياً تكن النتائج. هذا إذا ما صحَّت اتهامات الصين لأميركا بأنها المسبِّب في هذه الحرب الجرثومية عليها، لمنعها من استكمال مجال أنشطتها الاقتصادية وبناء منظومتها المالية وقواعد الإنتاج الحقيقية، لإعادة رسملة العالم وتخفيف حدَّة الفقر والبطالة والتضخّم.
اليوم، يعيش كوكب الأرض في حالة هدوء وسكينة وصفاء، بعد الحَجْر شبه الكامل له وعلى أبنائه من سكّان البشر وتوقُّف ماكيناتهم في العمليات الصناعية، والتوقُّف الجزئي عن تدمير البيئة والطبيعة، عسَى أن تكون هذه التجربة المروّعة، في اقتحام الـ«كورونا» لكلِّ البيئات السكانية، درساً كبيراً وعِبرة للاتِّعاظ من نِعْمة العيش فيه والتمتُّع بخيراته وجماله، بقدر ما قد كشفت هذه الأزمة القاتلة حجم هذا التوحُّش الإمبريالي والعالم المادي البغيض. كذلك، كَشَفت كمْ أنَّ الإنسان بحاجة إلى أن يختلي بنفسه قليلاً، ومع أهله وعائلته، ليكتشف كم هم رائعون... وبعيداً عن حجم الأنانية لكبار المتموِّلين وأصحاب رؤوس الأموال الذين لم يتظهّر معدنهم الطيب بعد، رغم هول الكارثة. لكن الأهم، هو اكتشاف الإنسان لنفسه وقدرته كفرد على المواجهة وعدم الاستسلام واليأس أمام وحوش فيروسية قاتلة غير مرئية، وهو اختبار بَشري يُعَدُّ الأوَّل من نوعه في التاريخ الإنساني الحديث، من حيث الخبرة التي يكتسبها المرء من جرّاء المواجهة والصلابة.
أخيراً نقول بعدَ كل ما جرى، كشفت حدَّة أزمة وباء «كورونا» أنَّ الصين تستحقُّ، وعن جدارة، أن تتقدَّم العالم علمياً وتكنولوجياً وانتظاماً مؤسساتياً وأنْسَنَة في العلاقات الدولية، والأهم من كلِّ ذلك هو نقل العلاقات بين الناس والدول والشعوب إلى إطارها الإنساني والأخلاقي والتوْعَوي، بعيداً عن الماديات ومنطقها المتحكِّم والمزمن، وبعيداً عن الرّبا والفجور وغيرهما من الموبقات، وعسى أن يكون درساً للإنسانية جمعاء.
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية