بعد مئة وخمسين سنة من التجريب، صار يمكن الجزم بأنّ جيوش «النظام الجديد» ــ ونموذجها في التنظيم العسكري على النمط الغربي ــ لم تثبت نجاحاً في بلادنا. بل إنّه، خلال تسعينيات القرن الماضي، صارت هناك موجة من الكتابات الغربية تحلّل «فشل» الجيوش العربية وهزائمها المزمنة؛ مع عناوين من نوع «لماذا يخسر العرب الحروب»، وكتاب شهير لكينيث بولاك يقارن أداء الجيوش العربية المختلفة لرصد مكمن «الخلل».
حاجج البعض بأن العرب فشلوا في بناء تنظيمات عسكرية فعالة بسبب ظروف تاريخية ومؤسسية، فيما قال البعض الآخر إن الثقافة العربية نفسها لا تتناسب مع العسكرية الغربية والتنظيم الحديث (العنوان الأصلي لدراسة كينيث بولاك، قبل أن تصير كتاباً، هو «تأثير الثقافة العربية على الفعالية العسكرية العربية»). وقد استمرّ هذا النقاش حتى ظهرت تنظيمات عربية، كحزب الله وحماس (وقد انضمت اليها اليوم تجارب جديدة)، أنهت الى الأبد فكرة أنّ العرب هم ــ بطبيعتهم ــ ليسوا أهل قتال ولا يقدرون على التأقلم مع مسرح الحرب الحديثة.
فكرة «النظام الجديد» التي اجتاحت أقطار الشرق في القرن التاسع عشر، من ايران الى مصر، تقوم على عنصرين أساسيين: أولا، فصل الجيش عن المجتمع، أي تحويله الى مؤسسة «فيبيرية»، مناصبها ادارية قابلة للاستبدال ولا تفرزها بنى تقليدية أو صلات دم وقرابة. والعنصر الثاني هو اعتماد نظرة غربية للتنظيم العسكري والتجنيد وتقنيات الحرب ومعارفها.
خلال الحرب بين العراق وايران، اكتشف الطرفان بسرعة أنّ «الجيوش الرسمية»، ومقاتلوها من المجندين والموظفين، لا تكسب حروباً؛ فعمل كلّ منهما على بناء جيش موازٍ صار عماد قواته المسلحة: الحرس الثوري في ايران، والحرس الجمهوري في العراق، وهو تحول ــ في أواسط الثمانينيات ــ من وحدة لحماية أمن الرئيس الى جيش متكامل من عشر فرق، تربط ضباطه صلة عقائدية بالنظام، وينتمون الى خلفية اجتماعية مشتركة.
هذه القواعد هي التي تحكم المقارنة، اليوم، بين أداء الجيش العراقي الرسمي واداء الحشد الشعبي (أو «داعش»)؛ وسقوط وحداته وتشكيلاتها وانهيارها، من ناحية، فيما تصمد بلدةٌ كـ»آمرلي»، حين يدافع عنها مجتمعها، لأشهرٍ في وجه حصار العدو.
في دراسة قيّمة للأكاديمية لالي خليلي، عن الأصول الفكرية لمدرسة «مكافحة التمرد» في الجيش الأميركي، تتكلّم الباحثة عن رواية «قادة المئة» للاترجي، وهو صحافي كان قد قاتل في حروب فرنسا الاستعمارية، وتعدّ روايته مرجعاً للجيل الجديد من «مكافحي التمرّد» في الغرب. تورد خليلي مقطعاً على لسان بطل الرواية، كأنه يصف جيوش «النظام الجديد» في بلادنا:
«هل لاحظتم انه، على طول التاريخ العسكري، لم يتمكن جيش نظامي من التعامل مع حركة غوار منظمة بشكل كفوء؟… أريد أن يكون لفرنسا جيشان: واحد للعروض العسكرية… جيش يمكن عرضه، مقابل بدلٍ متواضع، في أي ساحة مهرجانات في البلد. أما الجيش الآخر، فسيكون الجيش الحقيقي، مكوّن بالكامل من متحمسين شباب في ثياب ميدان مموهة. لن يُستعرضوا ولكن ستطلب منهم جهود مستحيلة، وسيجري تعليمهم كل أنواع الخدع والمهارات. هذا هو الجيش الذي أودّ أن أقاتل فيه».
2 تعليق
التعليقات
-
العوامل المؤثرة في قوة الجيوششكرا لك أستاذ عامر لطرحكم لهذا الموضوع... يتضح من خلال قراءة مقالكم الموفق أن الموضوع يستحق أن يستتبع بدراسة أخرى 1. حول الجيوش الرديفة ومصادر قوتها... 2. تأثير العامل الإجتماعي في نجاح الجيوش الرديفة.. وفشل الجيوش الرسمية 3. مصادر القوة والعوامل التي تؤثر بشكل فعلي في نجاح الجيوش الأجنبية في الحروب بعكس الجيوش العربية الرسمية. 4. إن سلمنا بأن تقليد الجيوش الأجنبية لا يجدي نفعا للجيوش العربية في القتال فما هو الاسلوب الذي يسمح للجيش العربي الرسمي بالنجاح؟ هل إن زوال الصفة الرسمية عن الجيوش الشعبية يسمح لها بالتفلت من التأثر بالعوامل السياسية؟ أم أن بيروقراطية العمل العسكري الرسمي تفرض قيوداً في الميدان تأتي بنتائج سلبية؟ كل هذه العوامل مجتمعةً تحتاج لدراسة ونقاش ... وهي من صميم حاجة الأوطان العربية، إن كان هناك من متابع.
-
صناعة الحربثمة من ينسى أنّ الحرب فن و صناعة. و هي ليست بأدنى الصناعات و لا أرذلها، إن زعمنا، كما زعم هيراقليطس، أنّها أب كل شيء، أنّها أمّ كل شيء. سيطول الحديث عن مدى تأثير الحرب في تطوّر المجتمعات، و لكن نظريات الحرب التقليدية، و المستمدة بشكل رئيسي من كتابات فون كلاوسفيتز، و هو بدوره استقاها بشكل رئيسي من تجاربه على ساحات القتال الأوروبية في عهد كانت الدولة-الأمة في عنفوان شابها. المبادئ الكلاوسفيتزية و التي يمكن اختصارها بالرغبة في " افناء الخصم" - بالتوازي مع نشوء القدرة المادية على ذلك- هي التي تسببت في كون ضحايا الحروب الحديثة أضعاف ما كانت عليه في السابق. في زمن التمدد الاستعماري، لم تجد تلك النظرية من تحديات لها، خاصة أنّه "مهما حدث فإنّ لدينا سلاح الماكسيم"، و هو المدفع الرشاش الدائري، فقد سقطت و تقهقرت معظم الدفاعات المحلية. لكن زمن الاستعمار المباشر لم يدم طويلاً، البنى المحلية استوعبت الصدمة و قاتلت. و في هذا لم تكن تجربة العالم العربي مختلفة- يجب أن نتوقف عن إهانة أنفسنا و الاستخفاف بتاريخ مقاومتنا منذ النضال المغاربي ضد الإسبان و البرتغاليين، حتى المقاومة السورية ضد الفرنسيين و الفلسطينية ضد الانجليز- إلّا ما أنشئه من بنى، و على رأسها الجيوش هي من استمرت. علينا أذن أن نلتفت بعيداً عن تكتيكات الدول الأمم و عن حربها الشاملة و نتجه بكلّ وعي إلى أقوال المعلم الأكبر صن تزو و فنونه في الحرب. الحرب خدعة، و الحرب معرفة للخصم بقدر ما هي وعي للذات، و أنبل الانتصارات هو ذلك الذي يحصلّه القائد بأقلّ سفك للدماء. حرب محسومة النتائج قبل أن تبدأ.