![](/sites/default/files/old/images/p20_20100916_pic3.jpg)
سبّب المعتزلةُ «محنة ابن حنبل» وشارك بعض أقطابهم في «محاكم التفتيش» المأمونية. الجابري وأبو زيد وأركون، عكسَ ما يُروّج له بعض من يخلطون بينهم وبين غلاة «التنوير» التسلطي، لم يسبّبوا محنة أحد. لم يعذّب أحدٌ بسببهم، لكنّ براءتَهم لم تحمهم من إهانات أهونُها اتهامُهم بأنهم في خدمة الحكومات الجاثمة على صدور أوطانهم.
عاش المعتزلة في أوج مجد دولة تمتد أطرافها من حدود الصين إلى المحيط الأطلسي. لم يكن فكرُهم، على أهميته، شرطاً ضرورياً لبقائها. مع ذلك، ما أعظم أثَرهم في تاريخ الدولة العباسية. معتزلةُ اليوم، ممن يغيّبهم الموت واحداً تلو الآخر، نشأوا في بلاد مستعمرة، العقلانيةُ فيها شرط أساسيٌ لنهضتها. مع ذلك، تبدو كتاباتُهم فيها ترفاً بالغاً إن لم يعدّها بعضهم كفراً لا عقابَ عليه سوى الموت.
انتُقد المعتزلة أشد الانتقاد، لكنّ بغداد في عهدهم لم تكن تحت سلطة بيزنطة، فلم يُجابَهوا إلا نادراً بأن فكرهم «مستوردٌ دخيل». أما ورثتُهم اليوم، فما إن ينطقوا حتى يهبَّ المتزمتون ليصفوهم بأنهم «رأسُ حربة الغزو الثقافي»، ناسين أن لا أحدَ غيرهم انتقد الاستشراقَ وحجّم تأثيرَه في مؤسسات أكاديمية ذات تأثير كبير في القرار السياسي الأوروبي والأميركي.
هذه محنةُ معتزلة القرن العشرين، اجتهدوا فحوربوا وشرّدوا، وقضى كثيرون منهم في المنفى. ماتوا غرباء. هذه محنةُ ولادتهم في زمن تُقهر فيه بلدانهم باسم الرقي، وتقاد باسم العقلانية إلى المعتقل.