في أكثر السنوات، يوازي هذا الفائض أو الربح المحقّق من الاتصالات قيمة العجز أو الخسارة في الكهرباء، علماً أن دعم أسعار الكهرباء يشهد تقلّبات واسعة ناتجة من تأثّره الوطيد بأسعار النفط العالمية، كما أن جزءاً مهمّاً من فوائض الاتصالات لا تظهر في إيرادات الموازنة كونها تنفق مباشرة على التشغيل والاستثمارات عبر الشركتين المشغّلتين، في حين أن الدولة تمتنع عن تنفيذ أي استثمارات في الكهرباء. ووفق النظرية الاقتصادية للتسعير في الخدمات العامّة (public utilities)، فإن الحصيلة تكاد تكون صفراً، وهذا يدحض كل المزاعم عن مسؤولية دعم الكهرباء في العجز والمديونية.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره
تقوم نظرية التسعير أساساً على أنواع من سياسة «لا ربح لا خسارة» (no profit-no loss policy)، أي أن أسعار الخدمات العامّة التي توفرها الدولة يجب أن تغطّي فقط كلفة إنتاجها مع كلفة الاستثمار فيها، وليس هدفها تحقيق ربح للدولة. وبالتالي، يجدر عدم فصل العجز في الكهرباء عن الفائض في الاتصالات، لأنهما يشكّلان معاً جزءاً من منظومة الخدمات العامّة للدولة اللبنانية. ولذلك، فإن التركيز على قطاع الكهرباء فقط ما هو إلا خطأ اقتصادي، ينمّ عن حملة أيديولوجية مركّزة لوضع اللائمة عليه في تراكم الدين العام، بهدف طمس دور النظام الضريبي، الذي هو الأساس في تراكم هذا الدين، والتعمية على خدمة الدين العام وارتفاع الفوائد، التي لديها حصّة الأسد في عجز الخزينة وتراكم الدين.
تعتمد بعض الدول النامية سياسة الفائض في الخدمات العامّة ليس كمصدر لإيرادات الموازنة، وإنّما لاستعماله في التنمية الاقتصادية وتمويل الاستثمار العام في القطاعات المختلفة في الاقتصاد، وتُعرف هذه السياسة بسياسة التسعير للربح (profit-price policy). لا تنطبق هذه السياسة بأي حال من الأحوال على فوائض الاتصالات المُحقّقة، إذ إن تخلّف قطاع الاتصالات نفسه دليل على ذلك. فهل قامت الحكومة اللبنانية باستعمال الفائض في الاتصالات لتمويل الاستثمار العام في قطاعات مختلفة في الاقتصاد؟ الجواب معروف للجميع: كلا. والأهمّ، أنه لو اتبعت الحكومات المتعاقبة سياسة استعمال الفائض في الاتصالات المستمرّ كل هذه السنوات للاستثمار في قطاع الكهرباء لكان الآن قطاع متطوّر والكهرباء متوافرة لمدة 24 ساعة يومياً، بدلاً من الوضع المزري الذي يعيشه القطاع ومعه اللبنانيون واقتصادهم.
لماذا طرح هذا الموضوع الآن؟ يجري الحديث حالياً عن ضرورة تطبيق برامج تقشّف من أجل التصحيح المالي. والوجه الأساسي لهذا التقشّف سيكون تحقيق فوائض أوّلية في الموازنة العامّة لمدة خمس سنوات، بمقدار تصاعدي يبلغ 1% من الناتج المحلّي الإجمالي سنوياً. ويتمّ الحديث عن تقليص القطاع العام وفرض المزيد من الضرائب على الاستهلاك، بالإضافة إلى إلغاء الدعم عن أسعار الكهرباء... ما يعني أن هذا الفائض سيتحقّق على حساب الطبقات المتوسّطة والعاملة.
يعني الفائض الأوّلي في الموازنة العامّة، أن الحكومة تجبي إيرادات من المقيمين بقيمة أعلى ممّا تنفقه عليهم من دون كلفة خدمة الدين العام. ووفق بيانات وزارة المال، يتبيّن أن الحكومة اتبعت سابقاً هذه السياسات التقشّفية، وحقّقت فوائض أوّلية في الموازنة ولا سيّما بعد عام 2006. وقد تحقّق ذلك عبر خفض الإنفاق الاستثماري الحكومي، ما أدّى إلى انهيار البنية التحتية والخدمات الأساسية. هل نحن بحاجة إلى إعادة الكرّة؟ أم نحن بحاجة إلى سياسات ضريبية تطاول الأرباح وعوائد الرأسمال من ريع وفوائد وتطاول الثروة؟ نحن بحاجة إلى هذا التغيير في السياسات الضريبية من أجل أن يكون «التقشّف» ليس على حساب من دفع هذه الفاتورة لمدّة طويلة بل على حساب الذين يستفيدون من الدين العام وعجوزات الخزينة.