تعيش الكويت أجواء خوف وترقّب قلّما شهدت مثيلاً لها في تاريخها، بعد حلّ مجلس الأمة ووقف بعض مواد الدستور لتعطيل الحياة البرلمانية مدة لا تزيد عن أربع سنوات، بحسب أمر أصدره أمير البلاد، مشعل الأحمد الصباح، مساء الجمعة الماضي. ومع أن التكهّنات باتخاذ هذه الخطوة كانت تدور منذ أن تسلّم مشعل منصب ولي العهد عام 2020، قبل أن يصبح أميراً في كانون الأول الماضي، وهي فترة شهدت حلّ المجلس أربع مرّات، إلا أن صداها تردّد في الكويت وخارجها باعتبارها نقطة تحوّل في مسار تميّزت به الكويت منذ عشرات السنين عن نظيراتها الخمس في مجلس التعاون الخليجي، بتقاليد ديموقراطية وحرّيات سياسية أثارت إعجاب شعوب دول المجلس الأخرى، وفي الوقت نفسه خشية حكامها من مطالبة شعوبهم بالمثل. الأسباب المباشرة للأمر عرضها الأمير في خطاب إلى الكويتيين، كان عنوانه الأساسي أنه لن يسمح بأن «تُستغلّ الديموقراطية لتحطيم الكويت»، واتهم فيه المعارضة النيابية بمحاولة التدخّل في صلاحيات الأمير، ولا سيما في ما يتعلّق باختيار ولي العهد الجديد، الذي ينص الدستور على أن يعيّنه الأمير ويوافق عليه مجلس الأمة. كما اتهمها بتعطيل عمل الحكومة عبر التعسّف في استخدام أداة استجواب الوزراء ورئيسهم، ما يؤدي إلى أزمة مستعصية على الحلّ بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ذلك أن المعارضة كانت تسيطر على المجلس في كل انتخابات أُجريت في تلك المدة. أيضاً، برّر الأمير قراره بالحاجة إلى كبح الفساد الذي اتسعت دائرته في كل إدارات الدولة وصولاً إلى قوات الأمن، وحتى القضاء.
ولئن كان الأمر متوقعاً على هذا النحو، فإن المثير للاهتمام هنا هو التوقيت، الذي يتصادف وظرف تواجه فيه دول الخليج مفترقات في خياراتها الكبرى، في ظل الحرب الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة، وما يُحكى عن إكمال دائرة التطبيع الخليجي في خضمّها، إذ لا يمكن تمرير التطبيع كويتياً في ظل وجود مجلس أمة يقارع على أبسط الأمور، فكيف بخيار كبير من النوع المذكور؟ وتبعاً لذلك، فإن الوقت وحده كفيل بالإجابة على أسئلة أثارها الأمر الأميري، من نوع هل يمكن للأمير أن يأخذ المخاطر ويركب قطار التطبيع الخليجي بمعزل عن رغبة الشعب، أم يؤكّد موقف البلاد المعارض للتطبيع في ظل توقّف الموقع الأول للتعبير عن تلك المعارضة، ألا وهو قاعة عبد الله السالم؟
توقيت الأمر الأميري يتصادف وظرف تواجه فيه دول الخليج مفترقات في خياراتها الكبرى


المنطق يقول إن الاحتمال الثاني هو الأرجح، باعتبار أنه لا دافع قوياً لدى مشعل إلى الاستعجال في التطبيع، ولا سيّما أن الجار السعودي نفسه، ما زال متهيّباً الإقدام على تلك الخطوة في ظل حرب غزة ووجود حكومة متطرّفين في إسرائيل غير مستعدة لمساعدة ما يُطلق عليه «الاعتدال العربي» في تسوية ما للقضية الفلسطينية. ورغم ذلك، يبدو مشعل معنياً بتثبيت ركائز الحكم الذي واجه أزمات كثيرة منذ بداية العقد الماضي، عندما استفادت المعارضة ذات الطابع القبلي – الإسلامي، من «الربيع العربي» لتعزيز موقعها وسيطرتها على البرلمان ورفع مستوى مطالبها المتعلّقة بالمشاركة في القرار، وصولاً إلى المطالبة في بداية تحرّكاتها بإمارة دستورية. ويحتاج هذا التثبيت من الأمير إلى استخدام صلاحياته الواسعة لحسم الأمور، ولكنه يحتاج أيضاً إلى سند آخر يبدو متاحاً ضمن المنظومة الخليجية العامة، وما تتوصّل إليه بصورة فردية وجماعية من ترتيبات حمائية مع الولايات المتحدة والغرب، سواء اكتملت دائرة التطبيع الخليجي مع إسرائيل أم لا. ضمن المسار المشار إليه، تأتي مسألة اختيار ولي العهد، الذي سيكون قرار الأمير وحده بغياب مجلس الأمة الذي ستنتقل صلاحياته خلال فترة توقّف الحياة البرلمانية إلى الأمير ومجلس الوزراء. والخيار المرجّح للأمير، وهو ناصر المحمد الصباح، مرفوض تماماً لدى المعارضة باعتبار أنه كان رئيساً للوزراء في السابق وشهدت فترات حكمه صدامات بين الجانبين.
وإذ جاء وقف بعض بنود الدستور تحت عنوان إنهاء حقبة التأزيم، فإنه خلق أزمة أعمق مع إطلاق العنان لمخاوف الكويتيين بشأن المستقبل. ففي النهاية، كان المجلس في هذه المرحلة متنفّساً وخط أمان لسلامة الأوضاع في الكويت رغم الأزمة بين السلطتين. والأسئلة التي أثارها الأمر الأميري تبدو مشروعة، ومن ضمنها أنه متى كان تعطيل المجالس المنتخبة حلاً لقضية الفساد؟ وهل إذا طالب النواب بمكاسب لقواعدهم الانتخابية ثم دخلوا في تسويات مع الحكومة قد يراها البعض فساداً، يكون الحل بتعطيل الحياة الديموقراطية أم بإصلاح الأنظمة الإدارية لتطوير الدولة بحيث يحصل كل المواطنين على حقوقهم، فينتفي مبرّر سعي أبناء القبائل إلى تحصيلها عبر تعزيز انتمائهم القبلي، أو الذهاب إلى انتماءات إلى تيارات إسلامية يعتبرها جزء من الكويتيين إصلاحية؟
وفي النهاية ما وصلت إليه الكويت، ليس مسؤولاً عنه مجلس الأمة، فالصلاحيات غالبيتها في يد الأمير والسلطة التنفيذية، والمجلس لا يعدو كونه صوتاً اعتراضياً عالياً أقصى ما يمكنه فعله هو المطالبة. ثم إن الشعب هو من أعاد التركيبة نفسها إلى مجلس الأمة، بل الوجوه نفسها، مرة بعد مرة، فهل المشكلة في الشعب؟
وما دامت هذه هي الشكاوى التي ساقها الأمير، فإن ذلك قد يفتح الباب خلال فترة تعليق الحياة البرلمانية، على قمع أصوات الاعتراض التي ستصدر في الشارع هذه المرّة أو عبر منابر التعبير مثل وسائل التواصل الاجتماعي. فوجود المجلس، على الأقل، كان يحتوي الاعتراض ويحصره في قاعة عبد الله السالم حيث يمكن للتفاوض أن يحل المشكلة، كما حصل حين تم التوصل إلى تسوية لم تعش طويلاً بين المعارضة والحكومة، أسفرت عن عفو أميري عن النواب المهجّرين إلى تركيا في قضية اقتحام مجلس الأمة عام 2011، ومشاركة المعارضة في الحكومة.