غزة | أيها القارئ العزيز، قبل أن تبدأ هذه المقالة، عليك أن تنتبه أن الأسطر التالية تسمع صوت «الزنانة»، وأصوات قصف هنا وهناك، وربما ترى جريحاً أو شهيداً عبرت بهما سيارة الإسعاف، فأنا في دير البلح وسط قطاع غزة، موجود هنا لأنّي لاجئ ابن لاجئ حفيد لاجئ من بئر السبع.هذا الورق، يسمع ويرى، وينقل عني الكلام، وسيبقى ليروي عني لو استشهدت في قذيفة يرميها الاحتلال، كالتي رماها على آلاف مؤلّفة في غزة، وها أنا أكتب، وها أنت عزيزي القارئ تقرأ، وفلسطين باقية.
(فؤاد اليماني)

قد يبدو معنى النكبة لديّ غريباً. فهي بشكل ما تعني لي رغبة محمومة لاحتضان حبيبتي على شاطئ بحر حيفا، وأثناء حضننا لن أغازلها في الحقيقة، لكنني سأكلّمها عن قطع الكهرباء الذي كان في غزة في أيام مضت.
في كل عام، يحيي الفلسطينيون في كل مكان يوم النكبة، اليوم الذي في نصف أيار، يوم صار الشعب بعضه خارج الأرض، وبعضه داخلها تحت حكم عسكري إسرائيلي في الذي احتل عام 1948، وحكم أردني في الضفة، ومثله مصري في غزة. ومن يومها اتضح شكل مستقبل هذا الشعب الذي تشتّت. سيلملم نفسه خلال سنوات، ويطلق نفسه مناضلاً في سبيل قضيته.
لم تكن النكبة الفلسطينيّة نتيجة حرب عاديّة وفكر منحرف، بل كانت نتيجة فكر منظّم لاحتلال الأرض واقتلاع الشعب منها، بتشريده وقتله. بدأ المشروع الصهيوني قبل عقود طويلة، وها هم حملته من اليهود يحاولون اليوم إكماله في قطاع غزة وباقي فلسطين. في البدء جلبوا مستوطنين من الغرب، فسكنوا وجاوروا أهل الأرض، بذروا في أرض الشعب، وحلبوا بقره، وصنعوا نبيذاً من كرومه، ولما اكتملت أركان لعبة الإمبريالية، اقتحموا القرى والمدن فقتلوا وسفكوا وهجّروا. كانوا في حينها عصابات، صاروا اليوم عصابة اسمها جيش.
أمام هذه الجريمة، يحاول الفلسطيني الحفاظ على ذكرى هذا اليوم في وجدانه، ليس لأنّه «مازوخي»، بل لتشكّل «النكبة» جداراً منيعاً ضد تسرب وجدانه في هذا العالم. وبهذا يُسلّم مفتاح العودة إلى البلاد لجيل بعد جيل.

النكبة مستمرّة والفلسطيني ليس هندياً أحمرَ
إنّ «الذهاب المستمر إلى البلاد» الذي يقوم به الفلسطيني، بمقاومته، سواء بالصاروخ أو القلم، بالرصاص أو بالحجارة، هو الخيار الذي تعاهدنا عليه كفلسطينيين من دون أن نتعاهد، نفدي فيه الأرض، نفدي فيه الأمة، ففلسطين التي تقاتل، تقاتل عن جموع في الأرض، ضد إسرائيل في ظاهر الأمر، أما في واقع الأمور وباطنها، ففلسطين منذ مئة عام تقريباً، تقاتل ضد الشر ضد الكراهية ضد الظلم الواقع على العالم أجمع.
ومنذ مئة عام، والصهيونية تعمل على أمر واحد، هو أن تكرر سيناريو «أمها» أميركا، التي قامت على إبادة الأصليين (الهنود الحمر). لم تنجح إسرائيل كنسخة مقلّدة، وها هي تقلب الأمور على النسخة الأصلية، فرأينا بعض أصحاب الأرض في أميركا يمشون في مقدمة تظاهرات مناهضة للمجزرة في قطاع غزة. لم تنجح إسرائيل في أن «تحوّل» الفلسطينيين، وهي التي قتلت وجرحت في الأشهر السبعة الماضية مئة ألف فلسطيني على الأقل. ورغم ذلك، ورغم ما يمكن أن يكون لدينا من سخط على الأوضاع، إلا أننا أهل الأرض، عدسها وبصلها، ونارها في وجه من يجرب أن يقتلعنا، وها نحن كفلسطينيين لم نتأخر في الدفاع عن وطننا ومحاولة إنهاء الاستعمار.
نضالنا الفلسطيني، هو في وجدان الإنسان الفلسطيني بشكل خاص، وفي وجدان كل من يؤمن بقضايا الشعوب التحرّرية، وقود يغذّينا حتى نصل إلى تحرير الإنسان من كل قيد وكل حاجز. فنحن كفلسطينيين لا نفهم النضال بمعناه الضيق، إنما نفهمه بكونه أسلوب حياة، نمارسه يومياً في تعاملاتنا كافة، ولا سيما أن الاحتلال حاشر أنفه في كل تفصيل في حياتنا نحن أهل الداخل، أو في حياة أهل الخارج من الفلسطينيين الذين تُحسب عليهم كل حركة، وكل هذا مرده يعود إلى أصل المشكلة، الاحتلال. وطالما أننا كشعب لم نصمت، ولم ننكسر، ولم ننمح، ولن يحصل ذلك، أدى ذلك إلى التفاف الأشخاص من حول العالم حول قضيتنا الفلسطينية، بوصفها قضية مركزية عالمية.

1948 -2024
76 عاماً، ولم يختلف أي شيء، ما يحدث في غزّة اليوم من إبادة وتشريد هو القتل والتشريد اللذان مارسهما الصهاينة قبل النكبة وخلالها وبعدها. ولم يختلف نضال الشعب الفلسطيني المستمر في شيء إلا بالأدوات، فالمجزرة ضده مستمرة. لا فرق بين المقابر الجماعيّة في الطنطورة والمقابر الجماعيّة في مستشفى الشفاء في غزّة أو في مستشفى ناصر في خانيونس. «الدولة» نفسها التي قامت على سياسة التوحّش، تتوحش بالجوهر ذاته اليوم، والعالم الإمبريالي الاستعاري الذي غيّب المجازر قبل، يزينها اليوم طالما أنه غير قادر على تغييبها. الفصل العنصري الذي كان في يافا، نفسه اليوم في الخليل والضفة الغربيّة. ومحاولات طمس الوجود الفلسطيني قبل عقود، نراه اليوم في محاولات أسرلة الشعب الأصلاني في الأراضي المحتلة عام 1948.
هذا الأمر عليه أن يجعلنا كفلسطينيين نمارس فكرنا وشكلنا الحي في هذا العالم، وأن نكون في موقع نابض بالحياة، يجعلنا الحامين للفكر الإنساني الذي يجمعنا مع كل أهل هذه المعمورة.
وبالعودة إليّ، وإلى كوني فلسطينياً من قطاع غزّة، فأنا أعيش امتداد النكبة إلى يومنا هذا. كنت ولا أزال أرى أنّ النكبة بامتداداتها لا يجب أن تتحوّل إلى موسم بكائيات سنوي، بل يجب أن تتحوّل إلى درس حي، يتعلّم منه أبناء هذا الشعب العظيم أنّ الهزيمة لا تورّث في النفوس، إلا إذا كانت هذه النفوس تستكين وتقبل الهزيمة.