ولدت أمي في مدينة حيفا في عام 1927. كانت تؤرّخ لولادتها بعام الهزة الأرضية التي ضربت فلسطين، وخلّف مئات الضحايا. تنحدر أمي من أسرة مهاجرة من مدينة غزة إلى حيفا في بدايات القرن العشرين، ولهذا احتفظت ببعض التقاليد الغزاوية التي ورثتها عن أهلها. ففي حيفا لم تخرج من منزل عائلتها المحافظة، إلا مرة واحدة، يوم خرجت حيفا عن بكرة أبيها، أي يوم جنازة عز الدين القسام، إذ سمح لهم جدي سعيد بالخروج. ورغم غزاويتها، بقيت أمي وفية لحيفاويتها حتى وفاتها رحمها الله عام 2005.
(نضال الخيري)

عاشت حياتها على أمل العودة إلى فردوسها المفقود. أكثر من 50 عاماً عاشتها في مدينة جنين، لم تستطع فيها أن تتآلف مع واقعها الجديد، لهذا كانت تُسمى «الغريبة». أطلق عليها هذا الاسم أهلُ قريتنا سيلة الحارثية حيث ولد أبي وعاش وعشنا، «الغريبة» أمي سكنت بينهم، وعلّمت النساء في السيلة، صناعة الكعك والحلويات، علّمتهن أيضاً العجين والخبز «الإفرنجي» ونقلت إليهن محتويات المطبخ الحيفاوي بلا مقابل، ومع هذا غاب اسمها، ليحضر اللقب «الغريبة» أو «المدنية» أحياناً. وفي يوم وفاتها خرجت كل قريتي في وداعها، احتراماً وتقديراً لها.
تقول أمي، في سردها الذي لم ينقطع، إنّ حيفا جنّة الأرض، ومنذ أن طُردوا منها في عام 1948، لم تعد تشعر بطعم الحياة على الإطلاق. عاشت سنواتها بعد النكبة تقارن بين زمنين، زمن حيفا والزمن الحالي، والفاصل بينهما زلزال النكبة. هذا الزلزال جعلها حين تصف أي شيء، أن تجد ما كان في حيفا أفضل وأحسن. حتى برتقال حيفا كان له مذاقه الخاص، وقد فقدته بعد النكبة.
كنت أسمعها وهي تعمل في بيتنا، طوال الوقت تردّد سيرة واحدة، ما حل بهم لحظة النكبة. منها سمعت البيان السياسي الأول، من خلال غناء ردّدته آلاف المرات، لا أزال أتوقف عند مقطع منه: «خيل تطرد خيل، واحنا الي انطردنا، ما نام الليل لنحرر وطنا». أمي كانت تعترف بالهزيمة التي حلّت بنا، لكن هذا الاعتراف، لا يعني أنه قدر، فلا نوم لنا، إلا بتحرير الوطن. كنت أجابهها، عندما كانت تحاول منعي عن أي نشاط معادٍ للاحتلال، بالقول أنت التي طلبت منا العمل على التحرير. وفي مقطع غنائي أيضاً، تصف أمي أحوال وأهوال لحظة النكبة: «جيت افك الخزانة ما خلانا، هالياهودي الهاغانا يبلا بنار». فالتهجير كان بفعل عصابة «الهاغانا» اليهودية التي هاجمت الأحياء العربية في مدينة حيفا، وقتلت وفجّرت، وارتكبت كل الأفعال الإرهابية التي دفعت أهالي المدينة للفرار منها.
اختارت عائلة أمي الذهاب إلى مدينة جنين، فيما الكثير من سكان المدينة اختاروا الرحيل عبر البحر إلى لبنان وسوريا. وفي جنين، تزوجت أبي في عام 1950، بعد خطبة استمرت 10 سنوات، لمكوث أبي في سجون الاحتلال البريطاني حتى لحظة خروجهم من فلسطين، زواج أثمر عن عشرة أبناء، أنا أصغرهم.
بعد سقوط الضفة الغربية في عام 1967، طلبت أمي من أبي أن تزور منزلها في حيفا، بعد أن أصبح من الممكن ذلك، بفعل سيطرة الاحتلال على كامل الوطن، وقد تمكنت من ذلك بعد عامين، فدخلت المدينة متوجهة إلى منطقة «الهادار» القريبة من الكرمل. وصلت إلى مشارف المنزل، وحاولت الدخول إليه، لكنّ المقيمين فيه من اليهود القادمين من أوروبا، حالوا دون ذلك، ومنعوها بعد أن عرفوا أن القادم هو صاحب البيت. واجهت أمي هذا الموقف بالدموع، وعادت أدراجها إلى جنين، لتكرر محاولاتها مجدداً، سنة بعد سنة. ومع مطلع السبعينيات، ذهبت في المرة الأخيرة، لتجد أن الساكن الجديد قد هدم المنزل، ليبني عمارة سكنية جديدة على أطلاله.
في حيفا مدينة أمي، لا تزال حتى هذا الوقت منازل الكثير من الفلسطينيين اللاجئين موجودة، أذكر أنّي قرأت مطلع التسعينيات عبارات كثيرة مكتوبة باللغة العربية على أبواب المنازل والمحالّ التجارية المغلقة في حيفا، تبدأ بـ«هذا من فضل ربي»، لكن «يهوه»، ربهم، كان له قول آخر، زمنه مختلف كلياً عن زمن أهل المدينة، حضوره يقوم على غيابهم، وحتى هذا الوقت متعطش للدماء التي يريقها في غزة وجنين ورفح وكل مدن فلسطين. بالأمس أحضر معاول الهدم لبقايا الأحياء الفلسطينية في قرية عين حوض في حيفا، أكثر من سبعة عقود يهدم ويقتل ويشرد في سبيل نجاته واستمرار بقائه، وآمنة أمي الفلسطينية، عاشت كل الآلام طوال تلك العقود.
في منتصف التسعينيات، تحوّل العمل النضالي إلى أشكال أخرى، الأصدقاء حملوا السلاح، وضاقت الأرض بما رحبت عليهم. كانت أمي تسكن في البيت وحدها، جاءها الشهيد صالح طحاينة بصحبته العديد من المطاردين، فسكنوا بيتنا. كانت هي التي تؤمن لهم كل وسائل الاتصال مع العالم الخارجي. لا أعرف بالضبط ما كان يدور من حديث بينهم وبينها، لكني سألتها مرة أثناء لقائي معها في دمشق حيث كنت أعيش، ألا تخشين الموت في حال اكتشف أمركم؟ هل ستخرجين من البيت لو تطور الأمر، أجابت بلا كبيرة، وأضافت: سأستشهد معهم ولن أخرج. وكرّرت: لقد «أكلنا الصبر من جذوره» في إشارة منها إلى الصبر الذي نعرفه، وشجر الصبار. كنت في كل مرة أسمع خبراً عن استشهاد أحدهم، أذهب مسرعاً للاتصال بها معزياً، بوصفها أم الشهيد، وكانت تلك قناعتي، وأمي كانت كذلك.
الاحتلال مسكون، برغم قوته، بعقدة الخوف التي ما انفكت تلاحقه طوال تلك العقود الماضية؛ الخوف من لحظة النهاية. فنكبة الفلسطيني لم تكن النهاية، هي محطة فاصلة بين زمنين مختلفين، زمن أهل البلاد الأصليين وزمن الغرباء الطارئين، الذين لا خيار لهم سوى الانخراط في الزمن الفلسطيني أو الرحيل.
قبل وفاة أمي بأيام قليلة، جمعني بها اتصال هاتفي، كنت أدرك أنه الاتصال الأخير، فقد كانت تعيش لحظاتها الأخيرة مع مرض السرطان، كانت كما عهدتها قوية وصبورة، أخبرتني عن أصدقائي، وعن أحفادها وعن إخوتي، وطلبت مني أن أعود إلى الديار، لكنها لم تلزمني بالوقت، إلا أنها أرادت أن أعدها، وكان لها ما أرادت.