كأنه في القدس رغم أنه في بيروت، كأنه يعود كل يوم إلى فلسطين، إلى القطمون حيث ترعرع في ذلك الحي المقدسي. وكأنه حتى اليوم يقف طفلاً أمام عبد القادر الحسيني ليشرح له عن مناطق الأعداء، بعد أن كان إبراهيم أبو دية هو الذي يشرح، والطفل يصحّح للقائد الكبير الذي صار شهيداً هو والحسيني.الطفل ذاته، كأنه أمام أبيه، يلقي عليه أبيات الشعر العربي أو يتلو آيات القرآن الكريم، ويأخذ بمقابل ذلك مكافآته التي كانت «قرشاً واحداً»، واليوم بعد أن كبر الطفل الذي كان هناك في فلسطين، صار كأنه هو نفسه فلسطين، في جسد عال طالع من أنفاس البلاد.

هذا الطفل، اسمه منير شفيق عسل، وهو الفلسطين التي لم تخرج من فلسطين، لكنها أخذت قسطاً من الوقت لتروي الحكاية، بالشهداء، وبالسياسة، وبسعة الأفق التي لا ترفض إلا الذي يرفض أو يلعب أو يخون فلسطين. ولد قبل النكبة في عام 1936 في عائلة مسيحية، في حي «النّمارة بالبقعة التحتا» في القدس. وترعرع في حي القطمون. وبينما كان بين الأطفال يلعب، كانت السياسة تكبر فيه، وكانت فلسطين تتغلغل أكثر فيه، والمدن والقرى تأخذ مواقعها في عقله وروحه، وفي ذاكرته التي تنشّط الحاضر يوماً بيوم.
بدأ حياته باسم منير عسل، فوقّع بعض كتاباته بهذا الاسم وهو في عمر الـ 16، حين كتب في صحيفة «فلسطين» التي كانت تصدر في القدس. صار اسمه منير شفيق، وبهذا الاسم وقّع باقي مسيرة حياته، كتبه الكثيرة التي ناهزت السبعين، وآلاف المقالات، وبهذا الاسم تولّى إدارة مركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبه، أيضاً، عاش طهرانياً بين الأطهار من المقاومين الفلسطينيين. استشهد بعضهم، وبعضهم الآخر لم يزل على الطريق يقاوم بأشكال مختلفة، منها العسكري، ومنها الأدبي، ومنها السياسي. وبعض قليل من هؤلاء استقال من حياته الماضية أو تنكّر لها، وجلس يقارعها بحاضر بائس ينحاز فيه إلى القاتل من باب أربابه.
لا يبحث عن فلسطين، لأنه يعرف الطريق إليها جيداً، يدركها بالقلب والعقل والعين، ولأنه كذلك، نظّر لها في مقالات وكتب ومساهمات، وتطويرات رؤيوية للثورة، فكان منها مثلاً: «حول التناقض والممارسة في الثورة الفلسطينية»، و«موضوعات من تجربة الثورة الفلسطينية» وغيرهما الكثير حتى اليوم. لم يسلك نحو فلسطين طريقاً أخرى، فقد أسّس في هذه الطريق في سبعينيات القرن الماضي مع إخوته ورفاقه في حركة «فتح» نبتاً اسمه «الكتيبة الطلابية» التي صار اسمها «كتيبة الجرمق». وهذا النبت الأصيل كبر، وتطوّر مع «أبو فادي» وإخوته، فأخذ شكله الجديد في ثمانينيات القرن الماضي، بجوهره المقاوم ذاته المنطلق من روح الشعب وثقافته. وحين لاحت التسويات في أوائل تسعينيات القرن الماضي، لم يغب عن قناعاته وثوابته، وكان «أوسلو» الذي رفضه، فنقده ونقضه وقرّعه وقرّع من وقّعه، فحلّله وفكّكه، وأشار إليه بوصفه تفريطاً كاملاً بالحقوق، ولا فائدة منه مهما كانت.
جاءت الألفية الحالية، وكانت الانتفاضة وما فيها من اجتياحات للضفة، وخروج الاحتلال من غزة، والانقسام الفلسطيني-الفلسطيني، وجاءت الحروب المتعددة على قطاع غزة، من ضمنها حرب 2014، و«سيف القدس»2021، حتى جاء 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، فكانت عملية «طوفان الأقصى». فلم تعزز هذه العملية إيمانه بالطريق التي يعبرها نحو فلسطين، لكنها أكّدت لديه المؤكد، وقدّمت له إثباتاً جديداً على صوابية الطريق، وهو الذي عبّر عنه في أكثر من منبر. فمنذ بدء هذه الحرب، وهو لا يهدأ، (مقالات ومقابلات، تحليل وتفكيك وتدليل)، والأهم، بالتوازي مع ذلك، دفع الروح المعنوية لدى الناس إلى الأعالي، إلى المكان الذي يرى فيه القضية الفلسطينية متخذة مكانتها، خاصة أنه وصّف العملية بأنها «نقلت المقاومة الفلسطينية من مرحلة الدفاع الاستراتيجي، والهجوم التكتيكي، إلى مرحلة "شبه التوازن الاستراتيجي" – مرحلة الإعداد للهجوم العام» («المقاومة بين السلبيات والإيجابيات»، «الجزيرة نت»، 28/1/2024).
روحه وطريقُه طريقةٌ، في صياغة الفهم للأمور، وللأمر الواقع، ولموازين القوى، وطريقةٌ في أي نقاش يجريه في جلساته مع الشباب الذين لولا طول تجربته وغناها وعمقها لظنوا أنه في سنهم، ولا سيما حين يلقي بدعابة أو طرفة أو قصيدة تكون في الغالب دالة في الموضوع المفتوح الذي يدور الحوار حوله، وهو بلا شك فلسطين ومقاومتها وشعبها.
تحل النكبة هذه السنة في ذكراها السادسة والسبعين، ومناسبة هذه المادة عن منير شفيق، هي هذه الذكرى، ومناسبتها الأخرى الحرب الإسرائيلية المسعورة على قطاع غزة. والرابط بين العناوين السابقة، أن هذا الرجل الذي خطا في الثامنة والثمانين من عمره، وعايش النكبة مع أسرته، لم تهزه الصعاب، ولم تقهره الويلات، لا لشيء سوى أنه على إيمانه الأول بفلسطين، وبجدوى المقاومة من أجلها، وقد قضى عمره لأجلها بكل ما للكلمة من معنى.
ولأن النكبة لم تفتّ في عضده، ولا النكسة، ولا الانكسارات اللاحقة، ومنها استشهاد الكثير من أحبابه كشقيقه جورج عسل، وصديقه سعد (عبد القادر جرادات)، فإن متتبعاً ما لشفيق قبل 7 أكتوبر 2023، يكون قد انتبه أن شفيق كان على يقين الثوريين، بأن «العبور» آت لا محال. ولعل القارئ ذاته، إن رجع سنوات أخرى للوراء، لقرأ لشفيق ما يؤكد له أن فلسطين ستحرر، والطريق إلى ذلك إعطاء الأولوية للمقاومة: «إن إعطاء الأولوية لهدف تحرير فلسطين يعني بالضرورة الانتقال بأشكال النضال إلى مستوى العنف الجماهيري المسلح، وإعطاءه الأولوية على أشكال النضال الأخرى دون إغفال ضرورة استخدام مختلف أشكال النضال الأخرى ولكن تحت قيادة حرب الشعب» («منطلقات أساسية لاستراتيجية الثورة الفلسطينية»، مجلة «شؤون فلسطينية»، العدد 17، 1973).
إنّ نكبة فلسطين كانت الفضّاحة الأولى للوهن العربي، وإنّ حرب غزة الحالية فضّاحة أخرى، وما بينهما الكثير، لكن «أبو فادي» الذي يرفض لعن الأمة، لكونه لا يقبل بإخراج القضية الفلسطينية عن بعدها العربي والإسلامي والعالمي، يؤمن بأن للشعوب كلمتها التي تقولها وستقولها عالياً، وهي التي ستبقى ذخر فلسطين.
وطالما أن هذه المادة عن منير شفيق، في مناسبة النكبة، وفي أجواء الحرب الدائرة في غزة، والتي تتجمهر لتنتقل إلى أنحاء فلسطين في أي لحظة لأن العين على الضفة، وعلى باقي الفلسطينيين في الأرض المحتلة، فالحال هنا يشير إلى قراءة النكبة مجدداً، قراءتها بعيني رجلنا في هذه المادة، وأعين أمثاله، فمنير شفيق لا يفسح مكاناً لليأس، ولا يعطي مجالاً للضعف، ولا يسمح بالمساومة، رجل عاش ليرى فلسطين، ويؤمن أن عودته إلى فلسطين حقيقة، وقد اقتربت، وهو القائل في كل مقام يخص فلسطين: «الشمس رح تطلع».