ما سيجري بعد غد ليس انتخابات عادية، بل حرب بين التيّار الإسلامي الذي يمثّله إردوغان، والتيّار العلماني الذي يمثّله كيليتشدار أوغلو
وينافس رجب طيب إردوغان، للمرّة الثالثة، على منصب الرئاسة، تحت شعار «الرجل الصح في الزمن الصح»، محمَّلاً بالنجاحات التي حقّقها في السابق، وعلى رأسها ما يعتبره «إنجازات وطنية» كبرى: من مطارات وجسور وسفن حربية ومسيّرات واكتشافات غاز طبيعي وصنع سيارة محلّية، واعداً، إذا فاز، برفع الأجور وإعفاءات من الضرائب، وغيرهما الكثير. وهو لا يوفّر نقداً أو تهديداً إلّا ويوجّهه للمعارضة التي يقول إنها تتحالف مع «الإرهاب الكردي» و«إرهاب» فتح الله غولين، وإنها تريد، بالتآمر مع الغرب، تقزيم تركيا وسلْبها «استقلالها»، محذّراً أيضاً من أنه لن يسلّم السلطة لتحالف «يُدار من قنديل». غير أن ما كان سبباً رئيساً في نجاحات إردوغان السابقة، وهو الملفّ الاقتصادي، يبدو غائباً اليوم، فيما تعكس استطلاعات الرأي، في ظلّ الأحوال الاقتصادية المتردّية، أن ما يهمّ المواطن هو الوضع المعيشي، وليس السياسة الخارجية مثلاً. وفي هذا الإطار، حمل علي باباجان، رئيس حزب «الديموقراطية والتقدّم» وأحد أطراف «تحالف الأمّة»، والذي كان وزيراً للشؤون الاقتصادية في السنوات الذهبية لـ«حزب العدالة والتنمية» قبل أن ينشقّ عن إردوغان عام 2019، في مهرجان حاشد في إسطنبول تأييداً لكيليتشدار أوغلو، ورقة المئتي ليرة، وقال للحشود: «هذه كانت تساوي 135 دولاراً. الآن تساوي عشرة دولارات».
وفي المقابل، ومن ضمن وعودها الكثيرة، تتكرّر إشارة المعارضة إلى ما تمثّله الانتخابات الرئاسية من فرصة لتغيير النظام من رئاسي إلى برلماني، وليس فقط السلطة. كذلك، يحظى كيليتشدار أوغلو بدعم قواعد «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي الذي يمثّل غالبية الناخبين الأكراد، ويُعتبر الحزب الثالث أو الرابع في البرلمان بـ10% - 12% من الأصوات. وهو دعم شكّل إضافة نوعية وكمّية مهمّة لمرشّح المعارضة، وجعل حظوظه للفوز بالرئاسة أكبر؛ إذ تقدّر استطلاعات الرأي أن ينال حوالي 70% من أصوات الأكراد، في مقابل 20% ستذهب إلى إردوغان. وما قد يسهم أيضاً في تضاؤل ما سيحصل عليه الرئيس الحالي، انشقاق رموز مهمّة في حزبه، عنه، من مِثل أحمد داود أوغلو وعلي باباجان، وتأسيسهما حزبَي «المستقبل» و«الديموقراطية والتقدّم»، وانضمامهما إلى «تحالف الأمّة». وعلى رغم أنهما حزبان صغيران، فإن ما سيحصلان عليه يقارب الـ5% من حصّة «العدالة والتنمية»، وهي نسبة مهمّة في صراع يدور على النقطة والفاصلة.
على أيّ حال، ما سيجري بعد غد ليس انتخابات عادية، بل حرب بين التيّار الإسلامي الذي يمثّله إردوغان، والتيّار العلماني الذي يمثّله كيليتشدار أوغلو. وفي حال خسارة الرئيس الحالي، فمن المتوقّع أن تشهد تركيا انقلاباً في طريق العودة إلى العلمنة ووقف مسار أسلمة الدولة، كما مراجعةً لنظام الحكم الفردي المطلَق الذي أسّسه إردوغان عام 2018، وربّما بدء نوع من المصالحة مع الأكراد، ولو بحدود معينة. كما سيعني فوز كيليتشدار أوغلو انتصاراً تاريخيّاً للعلمانية، إذ إن شخصاً ينتمي إلى المذهب العلوي سيكون للمرّة الأولى رئيساً للجمهورية، وهو ما سيفتح الباب أمام كسر إحدى أكبر المحرّمات في تاريخ تركيا، وعنوانها: ألّا يتبوّأ علوي أيّ منصب مهمّ، ولو كان رئيس الأركان (يعادل ذلك بالأرقام أن تركيا ذات الغالبية السنّية (70%) تنتخب شعبيّاً شخصاً من الأقلّية العلوية (20%)). أيضاً، ستكون لخسارة إردوغان، في حال وقعت، تأثيرات كبرى على مشروع التوسّع العثماني، ربّما تتيح تصحيح السياسة الخارجية لتكون وفق مبدأ الحياد في المنطقة العربية طبقاً لشعار أتاتورك: «سلام في الوطن، سلام في العالم».
أمّا في حال فوز إردوغان، فهذا يعني استمرار الواقع القائم حالياً، مع احتمال أن يتشدّد الرجل أكثر في المسار الداخلي، في اتّجاه تعزيز النزعة الدينية واستغلال هزيمة العلمانيين ليضرب ضربته النهائية في استئصال هذا التيار والتأسيس لعام 2053 (الذكرى الـ600 لفتح القسطنطينية)، وعام 2071 (الذكرى الألف لمعركة ملازكرد بين السلاجقة والبيزنطيين). كما لا يُتوقّع أن يبادر إلى أيّ محاولة للمصالحة مع الأكراد وتلبية بعض مطالبهم، فيما قد يعود أيضاً إلى التشدّد في القضايا الخارجية على اعتبار أنه لم يَعُد بحاجة إلى تقديم «تنازلات» كان بحاجة إليها قبل الانتخابات.