طغيان الإجماع الأيديولوجي
يعطي الرئيس الفرنسي أوضح مثال على ما يمكن أن نسمّيه منهجية في التعاطي مع الشأن السياسي، سِمتها الأساسية الحرص على الانسجام مع الإجماع الأيديولوجي السائد، والتراجع السريع عمّا يمكن أن يُعتبر تحدّياً له. أمامنا نموذجان سابقان: مواقف ماكرون من سوريا؛ وكذلك، ولسخرية الأقدار، من روسيا. بضعة أسابيع بعد وصوله إلى السلطة في 2017، أجرى الأخير مقابلة مع 7 صحف أوروبية بارزة انتقد فيها المقاربة الفرنسية السائدة بالنسبة للحرب السورية، متّهماً مَن وصفهم بـ«المحافظين الجدد» في وزارة الخارجية الفرنسية وفي دوائر رسمية أخرى بالمسؤولية عنها، ودعا إلى بلورة مقاربة جديدة لا تستبعد إمكانية الحوار مع جميع أفرقاء الصراع، بِمَن فيهم الدولة السورية، للتوصّل إلى تسوية لها. اعتقد البعض حينها أنّنا أمام «استدارة واقعية» للديبلوماسية الفرنسية، واستعادة، ولو نسبية، لاستقلاليتها التقليدية في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، عن تلك الأميركية. لكن هذا الكلام اللافت لم تَلِه أيّ خطوة لترجمته عملياً.
لم يَعُد خيار إبعاد روسيا عن الصين، الذي نادى به ماكرون وشولتز، خياراً واقعياً
تعرَّض ماكرون، في محيطه المباشر، وكذلك من قِبَل خصومه السياسيين وفي وسائل التواصل الاجتماعي، لحملة ضغوط وانتقادات لأنه خرق الإجماع الأيديولوجي الذي تمّت صناعته تجاه الدولة السورية ورئيسها. فمنذ الأشهر الأولى، جرت شيطنة الرئيس السوري وفريقه من قِبَل حكومتَين فرنسيتَين متعاقبتين (نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند)، وأيضاً من قِبَل ما يسمّيه بيير كونيسا، الموظف السابق في وزارة الدفاع الفرنسية والخبير في الشؤون الأمنية، المجمّع الإعلامي - العسكري. يضمّ هذا الأخير قسماً كبيراً من مراكز الأبحاث المتخصّصة في حقل السياسة الدولية، والمرتبطة بمراكز القرار، وجيشاً من الخبراء «الاستراتيجيين»، الذين يقومون ببلورة منظور للصراع، تتكفّل وسائل الإعلام، ومعها «المؤثّرون» في وسائل التواصل، بالترويج له. ولا شكّ في أن جماعات الضغط النافذة داخل مؤسّسات الدولة الفرنسية، التي لامها ماكرون نفسه، أسهمت بنشاط في الحملة المذكورة. قوّة رد الفعل السلبي على كلام ماكرون، حدت بمستشاريه إلى نُصحه بتعديل موقفه خشية من انعكاساته السلبية على صورته ومستقبله السياسي.
تَكرّر الأمر عينه بالنسبة لروسيا. صحيح أن الرئيس الفرنسي قد أبدى جرأة أكبر في محاولاته التقارب مع نظيره الروسي؛ فهو دعاه إلى قصر فيرساي، وتحدّث خلال زيارته عن «المصير الأوروبي» لروسيا. كما هاجم، في خطاب ألقاه في مؤتمر السفراء الفرنسيين في أيلول 2020، «الدولة العميقة» التي تسعى لتقويض التفاهم مع موسكو، متّهماً إيّاها بتبنّي أجندة لا تخدم المصالح الفرنسية، وستكون نتيجتها «دفع روسيا إلى أحضان الصين»، غير أن سياسته الفعلية تجاه هذا البلد، كما ظهرت في الفترة الأولى من الأزمة مع أوكرانيا قبل التدخّل العسكري فيها، لم تتمايز في جوهرها عن المعتمَدة من قِبَل واشنطن. كلام مشابه يمكن أن يُقال عن أولاف شولتز الذي بدا عند وصوله إلى منصبه حريصاً على الشراكة في ميدان الطاقة مع موسكو، ووريثاً لـ«السياسة الشرقية» (Ostpolitik) المُتّبعة تقليدياً في ألمانيا، والتي تقوم على قاعدة حُسن الجوار معها، ولكنه انعطف نحو التشدُّد بعد انفجار المواجهة في أوكرانيا.
وحدة المعسكر الغربي في زمن الاستقطاب
حديث المسؤولين الفرنسيين أو الألمان عن ضرورة التوصّل إلى حلّ تفاوضي مع روسيا، لا يعني أنهم لا يشاركون في الحرب ضدّها. الكمّ المتوافر من المعطيات عن المشاركة الفرنسية مثلاً في تسليح وتدريب الأوكرانيين منذ 2014، إلى جانب الأميركيين والبريطانيين، يكفي للدلالة على حقيقة موقفهم من موسكو، باعتبارها التهديد الأقرب لدول أوروبا، بغضّ النظر عن التصريحات التي يدلي بها هذا المسؤول الفرنسي أو ذاك. مراجعة تقارير الجيش الفرنسي عن «التهديد الروسي»، قبل الحرب الأوكرانية، تقود أيضاً إلى الاستنتاجات نفسها. ومع اندلاع الحرب، أصبح من المعروف أن القوات الخاصة الفرنسية، مع تلك البريطانية والأميركية، موجودة على الأرض إلى جانب القوات الأوكرانية. وقد كشف مندوب روسيا في الأمم المتحدة أن القوات الأوكرانية استخدمت قنابل عنقودية فرنسية، كان من المفترض أن يتمّ تدميرها في 2016، في قصفها للقوات الروسية. لم يَعُد خيار إبعاد روسيا عن الصين، الذي نادى به ماكرون وشولتز، خياراً واقعياً بعد «الصداقة بلا حدود» بين البلدَين، ومساندة الثاني للأوّل في الحرب الأوكرانية. وفي مقابل المعسكر الأوراسي، يتوحّد المعسكر الغربي بجناحَيه «المعتدل» و«المتشدّد»، لمحاولة الانتصار في مجابهة ستكشف حقيقة موازين القوى الدولية، وما يترتّب على ذلك من تداعيات على الصعيد العالمي.