دينا حشمت *
«صنعة لطافة»، صافي ناز كاظم، دار العين للنشر، القاهرة، 2007.
من قابل صافي ناز كاظم سيتعرّف على الفور في كتابها هذا على التلقائية الشديدة والعفوية في التعبير اللتين تتميز بهما. فلقد اعتادت هذه المناضلة، الماركسية ثم الإسلامية، التي اعتقلت مراراً في عصر السادات، أن تعبر عن رأيها بأسلوب مسرحي عنيف أحياناً، صادق دائماً؛ فلم تفقد أبداً فرديتها ـــــ بغضّ النظر عن انتمائها السياسي.
وتحاول هنا إبراز دور المرأة «العادية» في النهوض بمجتمعها، وهو ما يساهم في كسر الصورة السلبية لأنفسنا ولمجتمعاتنا التي ننشرها، فهي تعتبر أن «دعوى فقرنا العلمي كذب»، وأن «بلادنا ليست عاقراً».
فاختارت صافي ناز كاظم 23 شخصية نسائية شديدة التباين، ينتمين إلى عصور مختلفة، من بداية القرن العشرين إلى العصر الحديث، ومن كل الطبقات الاجتماعية، وإن كان أغلبهن من العالمات وأساتذة الجامعة. ما يجمع هؤلاء النساء، من شقيقتها «الدكتورة معصومة كاظم، رائدة علم الرياضيات»، إلى زميلتها «الدكتورة عفت بدر، طفلة معجزة ورائدة في علم الوراثة»، مروراً بالمغنية شريفة فاضل و«الشهيدة توحة» الخياطة البسيطة، وأخريات كثيرات، هو أنهن أفنين في مجال عملهن، دون أن يتلقين الشهرة التي يستحقنها.
قد يتساءل القارئ عن أسباب اختيار هذه الشخصية بدلاً من أخرى؛ والحقيقة أنه ليس هناك أسباب واضحة بخلاف مزاج ومشاعر الكاتبة. فهي لا تقدم لنا هنا تأريخاً لإسهامات نساء مصر الهامة، بل تقدم نصاً منحازاً لنساء عرفتهن شخصياً، تجمعها بهنّ ذكريات طريفة وممتعة تسردها بالتفصيل، كما تسرد ظروف المقابلة الأولى بنساء سعت للقاء بهن في إطار هذا البحث، لشدة ما أثرن إعجابها أو فضولها. وأولى هؤلاء النساء نبوية موسى (1886-1951) «أم الجيل»، هذه المرأة التي «لم تلق بزيّها الإسلامي على الأرض ولم تدسه بقدمها»، كما فعلت هدى شعراوي وسيزا نبراوي عند عودتهن جميعاً «من مؤتمر النساء الدولي الذي عقد في روما عام 1923».
قد نختلف مع صافي ناز كاظم؛ قد تزعجنا اختصاراتها المخلّة بوجهة نظر المناضلات النسوية اللاتي لم ينلن إعجابها. لكن يبقى أنه نص شديد الخصوصية، واضح في انحيازاته، كفيل بأن يجعل السيدة جيهان السادات تعترف، حسب ما تطلبه منها صافي ناز كاظم في المقدمة، «بأن إنجازها كان مجرد نقطة في البحر».
«تاكسي، حواديت المشاوير»، خالد الخميسي، دار الشروق، القاهرة، 2007، الطبعة الثالثة.
يرسم خالد الخميسي من خلال حواراته مع سائقي سيارات أجرة مجموعة بورتريهات لشخصيات مجهولة ينجح في أن يجعل لكل منها ملامحها الإنسانية والمهنية الحية أمامنا. فمن السائق العجوز الذي يعمل منذ 1948 ويقود سيارة متهالكة، إلى الشاب المثقف صاحب رسالة ماجستير، مروراً بالكهل المحترف المحب لمهنته، الذي يعتني عناية خاصة بمظهر سيارته البيجو 504، وهو الموديل الذي ما زال منتشراً حتى الآن ضمن الثمانين ألف سيارة أجرة التي تجول شوارع القاهرة الكبرى.
من خلال هذه البورتريهات الـ 58، لا يدخلنا الخميسي فقط في مآسي سائقي التاكسي، بل إنه أيضاً يسرد لنا 58 حكاية عن تناقضات المجتمع المصري الحديث. ولعل هذا ما يفسر نجاح الكتاب منذ صدوره، إذ أعيد طبعه ثلاث مرات في شهور قليلة.
فهناك السائق الذي يُشغّل شريط كاسيت يأتي فيه أن «أكثر فتنة تحيط بالمسلمين هي فتنة النساء». وهناك السائق الذي يتذكر الأيام الذي قضاها مهاجراً في العراق «أنا عارف العراقيين كويس ومعاشرهم فوق العشر سنين... دول شعب رجالة.. وحيطّلع عين الأمريكان». فلا بد أثناء ركوب التاكسي من فتح حوار عن السياسة، قد يدور عن «الأمريكان»، مثل هذا السائق الذي يطالب بأن «نراقب الانتخابات الأمريكية عشان إحنا مش ضامنين سلامة إجراءات الانتخابات بتاعتهم (...) ولازم نبعت من عندنا قضاة مصريين». ولكن غالباً ما تدور هذه الحوارات حول صعوبة تدبير «لقمة العيش»، من تسديد متطلبات الدروس الخصوصية إلى استحالة شراء تذكرة لحضور كأس الأمم الأفريقية لكرة القدم، لأن «أرخص تذكرة بمرتب واحد في الشهر»، مما جعل السائق يستنتج أنهم «عاملين بطولة للأغنياء فقط»، معبراً هكذا عن غضبه ضد الحكومة، كما عبر سائقون آخرون عن غضبهم ضد ضباط الداخلية.
ودائماً ما يشارك الكاتب مشاعر السائق الذي يحاوره، من غضب ومرارة وسخرية، حيث إن «حواديت المشاوير» ليست صورة محايدة للمجتمع المصري. فالخميسي لا يقمع رغبته في التعليق على الأمور التي يصعب السكوت عنها ـــــ مثل لافتة «الجنين في بطن أمه يقول نعم لمبارك». فيتدخل، ويضحك مع السائق، ويشاركه جزءاً من تفاصيل مهنته اليومية، وكأنه قد دخل هو الآخر في «الكار».
*كاتب مصري