أمور كهذه اعتدنا على حدوثها في بلدٍ يزهو بمكانة طوائفه وأدوارها السلطوية مثلما يزهو بطبيعة مناخه. عند كل فصلٍ من فصول السنة، يصاب الجسم اللبناني بنزلة بردٍ غالباً ما تؤدي إلى الحمى بسبب مزحة رديئة من هنا أو كلام مسرّب ضل طريقه من هناك. عندئذٍ، إن السيناريو الذي بات معروفاً يتكرر: ترتفع الحرارة، يطوف المكبوت، تُقطع الطرقات، تُحرق الدواليب، والبعض يقول إنه مستعدٌ للذهاب أبعد من ذلك. على ما يبدو، لهذا الجسم مناعة ضعيفة جداً. فهو هشّ معرّض للانتكاس في أيّ لحظةٍ. كلما طاولته عطسة نقلت إليه عدوى فأفقدته صوابه وكادت تدفعه إلى شنّ حربٍ أهلية. الحساسية الطافحة التي فاضت في اليومين السابقين على إثر الفيديو المسرب للستاند-أب كوميديان شادن فقيه ليست غريبة على الإطلاق، هذه عوارض موسمية اعتدنا على حدوثها، تماماً كاعتيادنا على الخطوة التي قامت بها دار الفتوى في تقديمها إخباراً إلى القضاء اللبناني بحق فقيه بتهمة التجديف و«تعكير الصفاء بين عناصر الأمة». الصفاء بين عناصر الأمة إذاً، ولتحقيقه، الأمر منوط أولاً وقبل أي شيء بالعودة إلى الدستور وتنفيذ المناصفة، وهذا إن عنى شيئاً، فهو يعني أن البارحة كان «فصِل» الأبونا، أما اليوم، فقد جاء «فصِل» الشيخ. الفصول تتغيّر، و«الحساسية الطائفية» تتغيّر بدورها، واحدة تتحسس على فيلم فيما الأخرى تتحسس على نكتة عابرة، هذه طبيعة لبنان، في النهاية لا بدّ من السيرورة أن تأخذ مجراها... والعدالة كذلك.شادن فقيه «مُدانة» إذاً بالجرم المشهود. جريمتها أنها استهزأت بشعائر دينية بما أنها أثناء عرضها «الكوميدي» تطرقت عبر السرد واللعب المسرحي إلى شقاء الوصول للمسجد حيث تقام صلاة يوم الجمعة، والمكابدة التي قد يعانيها المرء عند إصغائه للخطبة التي تلقى بصوتٍ مرتفع، واحتمال أن يُسرق حذاؤه كما سبق أن حدث مع النائب السابق خالد الضاهر، وأحداث أخرى يبدو الكلام عنها سوقياً لكنها بديهية ومن المحتمل حدوثها. وضعت فقيه جمهورها في ذاك العرض أمام سلسلة مواقف متراصة، تشكل في المطاف الأخير «حالات حادة» لتصوِّر عبثية ما، عبر الاسترسال في وصف الشدة والتعثر، والمبالغة في تصوير المشقة، والإفراط في التعقيب عن العناء، وهذا أسلوب ترى صاحبته أنه يخدم غرضها الفكاهي الذي يستعين بالبذاءة، وإطلاق العنان للانفعال، والشتم. في المناسبة تلك العناصر هي مقوّمات أساسيّة في البناء الكوميديّ. على أنّ الشتيمة التي استعملتها فقيه، غالباً ما تفرزها حالات قهرٍ لا يتقصد قائلها، عند استعمالها، الكفر أو التعرّض المباشر للإله. على أحدنا رد الشتيمة إلى سياقها لفهم مدلولها. وهذا لا يعني أن ما قالته لا يخدش شعور المؤمن، أو أنه ليس من حق المؤمن الامتعاض والتذمر، أو أنّ هذه الشتيمة وجب على الحسّ العام تقبلها أو اعتبارها أمراً مألوفاً (لن تعود شتيمة)، ولكن هذا يعني أيضاً أنه ليس ضرورياً تبريرها في عرض فقيه، ذلك أنّ العرض الذي قدمته هو عرض خاص (على عكس كما جاء في بيان نقابة الممثلين الصادر أمس محاولاً اللحاق بهمروجة الإدانة)، ومن يتقصد حضور هذا العرض لن يرتاب مما سمع.
ليس الحديث هنا عن «كوميديا» تستمد مواضيعها من ثقافةٍ معاصرة يمكن تعريفها - بل اختزالها - بعبارة «بشيل»، تبدأ بـ «Awkward» (مسرح العرض) ولا تنتهي بـ«مترو المدينة» وتعرّف عن حالها بأنها «البديل» و«الحداثة»، هذا موضوع آخر قد يناقش لاحقاً، إنّما عن ممارسة «الكوميديا» بغض النظر عن ضحالة مستواها وركاكتها أم براعتها وحذاقتها. المسألة الأساسية هنا هي القضية القضائية، أي الإدانة والملاحقة القانونية لفقيه التي لم تقدّم خطاباً تحريضياً، ولم تنشر الكراهية، ولم تهدد بـ«كيّ الزيتي»، ولم تدعو إلى إثارة العنف، كما أنها لم تنشر الهرطقة أو الزندقة أو الإلحاد، وقد قالت ما قالته في غرفة مؤصدة، مقفلة، على المتفرج - الذي يعلم مسبقاً أنه على موعدٍ مع معجمٍ بذيء وأداء ابتذالي ساخر - أن يدفع ثمن البطاقة لقاء الفرجة.
أما خارج تلك الغرفة المقفلة، فهناك شخص لا يتوانى عن التدخل في شتّى المجالات: السياسية، والأخلاقية، والشخصية... في عدد من المساحات المفتوحة. في بلد الرعايا لا دولة المواطنين، فإن المرجع الطائفي، أو «الراعي الأكبر» بما هو الموجِّه، والوصي، والعليم بالصراط المستقيم فلا يتأخر عن تأدية دور البطل و«إنقاذ» مجتمعه من «الفتنة» و«الخطر الداهم». وهذا الدور يتطلب من صاحبه أن يزيد من شدّة الحمى بدلاً من إخمادها، والأهم أن يعلو صراخه فوق صراخ جميع رعاياه. العالم برمته على صفيح ساخن وهناك من يتقصد الدخول إلى حفلة غير مدعو إليها، تستوقفه نكتة يتأبط منها، فيصدح عالياً: «أوقفوا هؤلاء المجرمين!». الحروب (الفتن لا فرق) تبدأ بالاستعراض.