لسوء حظّ الشاعرة أنّها تعيش في الحرب، في الرّاهن الذي يطفح بالأكفان وصور الموتى والدم والأنقياء الذين يغادرون البيوتَ والشوارع، ويعلقونَ في الذاكرةِ إلى الأبد. تعالج صاحبة «حياة هادئة في الفيترين»، الغيابَ بمفردها، مستخدِمَةً ذاكرتها التي يبدو أنها مليئة بكلّ شيء أسود: الفقد، الغياب، الموت، الوِحدة... هذه المفردات التي تتحوَّلُ أعباءَ ثقيلةً تُضافُ إلى الأعباء اليوميَّة وما يرافق اليومَ من شقاءٍ وبؤس. الحدثُ الأليم إذ يغدو ركناً أساسيَّاً وعماداً للذاكرة: «كلما ماتَ أحدٌ من العائلة/ انكسرَ كرسيّ./ هوت شجرةُ العائلة الأمسَ/ هوت أسماءُ الأسرةِ المدلاّة من أغصانها». من الممكن جدَّاً وصف القصائد التي كُتبت خلال فترة الحرب السوريَّة بأنّها قصيدة الحرب، إلّا أنّ قصيدة هنادي زرقة تخرج من كل تصنيف حين تخاطبُ القصيدةُ المدوّنةُ الذاكرةَ، الذاكرةُ آنَ تغدو هي الأخرى حرباً مصغَّرة ومكثَّفة داخلَ الدماغ من المستحيل تجاهلها أو غضّ النظر عنها، أو الذاكرة وهي تحوم حولَ تلكَ التفصيلات الممتعة التي سبقت اشتعال الحرب، وغدَت تلك التفاصيلُ فجأةً الملاذ الوحيدَ الآمن ضدّ السواد الذي باتَ عامَّاً: الكراسي، كراسي من غابوا وهي فارغة في الوقت الرّاهن، لكن قبل دقائق كانت ممتلئةً بأجساد سعيدة، الجنود، الأمّهات: «لعلّها الحربُ/ لعلّهُ العجزُ/ لعلّكَ أنت.../ ثمّةَ امرأةٌ تشبهُ أمَّكَ/ ترقبُ الجنودَ العائدين من الحرب/ وتحفرُ دمعةً على زجاجِ النافذةِ/ لم يعدْ ابنها».
تفاصيل الرّاهن بلغة هادئة وسوداويَّة
لا تذهب قصيدة هنادي زرقة إلّا نحو تفاصيل الرّاهن اليوميّ بجرعاتٍ من اللغة الهادئة السوداويَّة. الأمر ينسحب على القصائد جلّها، من دون أيّ تكلّفٍ أو التفاتٍة لما سيشكّل عبئاً على القارئ. هناك خط مستقيم للنصّ من دون اعوجاج، النَّفَس الواحدُ الطّاغي على مجمل نصوص الكتاب تجعل منها (أي النصوص) قادرةً على الإمساك بالذائقة، وجرَّها نحو الحدائق والحقول والألغام والموت والحرب والسَّواد من دون أي تعقيدٍ أو استحضارٍ للحالة. الحالة موجودة وملموسة ولا تَني تتجدّد عند كلّ قراءة: «ما من مصوِّرٍ في هذه البلدة يحتفظ بصوري وأنا شابّة/ المُصوِّرُ الوحيدُ ذهبَ إلى الحرب/ولم يعد».
يغدو أمر الإفصاح شعريَّاً عن الحرب إسرافاً في ذكر الموت: الموت/الحرب، الثنائيَّة اللا منتهية والعصيَّة على الانفكاك التي تغلّف أغلب قصائد هنادي زرقة الجديدة، تمنحُ البعدَ الأوسع لمعنى كتابة الحرب، الحرب التي تعني الموت بأشكالٍ مختلفة. ثمّة عبثٌ في الحياة السوريَّة تقتربُ زرقة منه، لكن على مسافةٍ واضحةٍ من الأمان الذي يتيح لها الكتابة لتعيش، أو لتتأقلم على الأقلّ مع الوجع والعبث عبر الكتابة وحدها. لكن الحرب تأتي لتركُل كلّ شيء بكل بساطةٍ وهدوء، وقسوةٍ كذلك: «أتحدّثُ عن الأمل/ يصغي الفتيةُ/ ويهزّون رؤوسهم/ أمّا المقبرة القريبة/ فتزحفُ بأعلامها ونياشينها وصور شبابها/ لتبتلع الأمل الخارج من فمي». المقبرةُ إذ تكونُ دالَّةً على الموتِ الذي سببه الحرب، على الأقلّ ضمن أجواءِ المدوّن ودلالاته الواحدة. دائماً ما توحي النصوص ضمن المجموعة -أو لعلَّها لا توحي- بقدر ما تؤكّد على اليأس المُطبِق، النهايات غير مبعثة على التفاؤل قطعاً. ففي النصوص بمجملها نرى المجاورة الدائمة بين أشياء لا يمكنها أن تتجاوَر حقيقةً، لأنّها إن تجاورت فلن تكون ثمّة حياة واقعيَّة مع توافر هذا الكمّ الهائل من الوجع: «مثل عجوزين صامتين/ يجلسان على كرسيين متجاورين في المقهى/ ويسندان رأسيهما على الجدار/ أجلسُ وهذي البلاد./ نفدَ الكلام/ ونحن ننتظر لنرى من سيسبق الآخر إلى المقبرة!».