شعار رفعته الثورة الفلسطينية في السبعينيات والثمانينيات، مفاده أنّه في ظل المعارك المصيرية مع العدو، يكون القول الفصل لرجال المقاومة القابضين على السلاح.يمكن لهذا الشعار أيضاً أن يعبّر عن الفهم العميق لطبيعة الصراع بين الشعب الفلسطيني والمشروع الصهيوني كصراع تناحري وجودي يلغي أحدهما الآخر.
فالهدف من الحرب، كما يقول ماو تسي تونغ في كتابه «حرب العصابات»، هو: «إفناء العدو والحفاظ على الذات».
ولا بد من إدراك أنّ الحرب الدائرة اليوم في فلسطين، هي حرب على الشعب الفلسطيني بأكمله، بهدف القضاء على مقاومته وإنهائها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً.
وبهذا يكون السياق الطبيعي لهذه الحرب، هو محاولة الاحتلال إنشاء ودعم وحماية خيارات طالما سعى لتشكيلها في فلسطين، لتكون البديل عن المقاومة الفلسطينية. يتمّ ذلك من خلال استهداف المقاومة وتجريمها، لا بل وتحميلها مسؤولية الإجرام الذي يمارسه الاحتلال. وتحت ذريعة عدم تكافؤ ميزان القوى، يتمّ عزل المقاومة الفلسطينية واتهامها بالعبثية والمغامرة والخروج عن الإجماع الوطني، أو التفرد بقرار الحرب وتوريط المجتمعات بأعمال العنف العبثية والمغامرات غير المحسوبة، تلك التي تؤدي بشكل طبيعي إلى ردات فعل قاسية وإجرامية من العدو المحتل.
يأتي كل ذلك بهدف إخماد «صوت البندقية» واستبداله ببرنامج لا صوت له ولا معنى ولا تأثير على الواقع الفعلي، وهو ما عبّر عنه فرانز فانون في مفهوم «الأقنعة البيضاء» وهو ليس إلا صوت الاحتلال والاستعمار، لكن تعبّر عنه شخصيات وتيارات محلية.
والتاريخ الفلسطيني مليء بمثل تلك الأصوات. فمنذ أن بدأ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، بدأ دعم الاستعمار البريطاني، ومن ورائه الصهيونية، تشكيل حزب «الدفاع الفلسطيني» الذي أسسته طغمة من العائلات البرجوازية في تلك الحقبة، والتي برزت نتيجة لسياسات الاستعمار الاقتصادية، وارتبطت مصالحها بمصالحه. و بهذا، أخذت تتغلغل في المجتمع الفلسطيني تحت ستار المطالبة بتحسين شروط الاستعمار، مع القبول بالمشروع الاستعماري-الصهيوني، وغض الطرف عن الهجرة الصهيونية، بل والموافقة على قيام «دولة إسرائيل» مقابل الحصول على دولة فلسطينية تحت قيادتها، ومواجهة التيار المقاوم الذي تبنّته القيادة الفلسطينية التقليدية، لما رفضت «وعد بلفور» والهجرة اليهودية، والاستعمار البريطاني (الراعي الرسمي للمشروع الصهيوني).

روابط القرى
ولعل تجربة روابط القرى التي جاءت في الثمانينيات كمحاولة لتشكيل بديل عن منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل المقاومة في الضفة الغربية وغزة، جاءت كذلك في سياق التعاون مع الاحتلال وشرعنته، للقضاء على فكرة المقاومة الشعبية، وتبنّي مشروع يقوم على إدارة شؤون الفلسطينيين تحت الاحتلال، وتجريد الشعب الفلسطيني من حقّه بالمقاومة وتقرير المصير.
وتُعتبر تجربة «أوسلو» وتشكيل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، النموذج الأكثر فاعلية، فقد شكّلت نقلة نوعية في كيّ الوعي الفلسطيني، عبر نقل الثقل السياسي والجماهيري لمنظمة التحرير إلى الداخل، وتوظيفها لتولي هذه المهمة. فقد حوّلت السلطة الفلسطينية «المنظمة» وحركة «فتح» -التنظيم المسيطر في المنظمة- إلى نموذج متطور من مشروع روابط القرى التي واجهها وأسقطها الشعب الفلسطيني.
تم تشكيل السلطة الفلسطينية لمهمة واحدة، هي أداء دور وظيفي لحماية الاحتلال، والقضاء على المقاومة الفلسطينية، وعدم السماح لأي فلسطيني في حمل السلاح لمواجهة الاحتلال، وهكذا عادت إلى نفس الخطاب الذي تبنّاه حزب «الدفاع» ومشروع روابط القرى في قبول الوضع الراهن، وتسهيل مهمة الاحتلال في الاستيطان، وإحكام سيطرته على الموارد كافة، من ضمنها الشعب الفلسطيني نفسه.
من هنا نستطيع أن نقارب بشكل أعمق طبيعة الصراع الداخلي الفلسطيني، وللأسف نتحدث هنا عن وجود صراع داخلي في ظل وجود صراع تناحري وجودي مع عدو خارجي. هذا الصراع من السهل فهمه في سياق الصراع الأساسي، باعتباره صراعاً داخلياً وتناقضاً ثانوياً كجزء من الصراع الأساسي، ما يعني ارتباط السلطة ارتباطاً عضوياً بالمشروع الاستعماري الإحلالي، واضطلاعها بتسهيل مهمته وحماية أمنه ووجوده.
وبهذا أيضاً نستطيع فهم محاولات السلطة الفلسطينية البائسة، لقطع الطريق على المقاومة الفلسطينية من خلال تشكيل حكومة جديدة، من دون توافق وطني في ظل الحرب الوحشية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وتجاوز المقاومة الفلسطينية التي تخوض أشرس المعارك في غزة والضفة الغربية.
وفي هذا السياق يأتي بيان «فتح» (15 آذار 2024) المشين والمهين في حقّ شعبنا، وفي حقّ أبناء «فتح» نفسها في المقام الأول. هذا البيان الذي حمّل المقاومة مسؤولية جرائم الاحتلال، وتنكّر لكل التضحيات التي يقدّمها أبناء شعبنا الفلسطيني في الضفة وغزة. لقد أعلن البيان هزيمة الشعب الفلسطيني قبل انتهاء المعركة. وتجاهل التضحيات والصمود الأسطوري لأبناء القطاع.
وعليه، فإنّه ليس من المستغرب أبداً أن يقتصر هجوم البيان على حركة «حماس» وحدها، وذلك يعود في الواقع إلى سياسة الاحتلال والغرب عموماً، والذي دأب على تصدير رواية مفادها أنّ الحرب الحالية هي حرب على تنظيم إرهابي، وليست ضد الشعب الفلسطيني بأكمله، وأنّ الهدف منها هو القضاء على هذا التنظيم وليس القضاء على مقاومة الشعب الفلسطيني. فحركة «الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية» و«كتائب المجاهدين» و«سرايا صلاح الدين»، وغيرها من الكتائب والفصائل المقاومة، تخوض أشرس المعارك في غزة والضفة الغربية، وينتمي إلى المقاومة أغلبية الشعب الفلسطيني هناك. فإن لم تكن هناك قاعدة جماهيرية صلبة تحتضن المقاومة وتدعمها، لما كان لنا أن نشهد مثل هذا الصمود الأسطوري في وجه أحدث وأقوى الجيوش في العالم ببسالة وإصرار غير مسبوق.
إنّ ما سبق من معطيات، أدركته وتدركه المقاومة وفي مقدّمتها حركة «حماس» المصرة على إدراج اسم القيادي الفتحاوي المعتقل في سجون الاحتلال مروان البرغوثي، وغيره من المقاومين الشرفاء، على لائحة المفرج عنهم ضمن الصفقة المرتقبة لتبادل الأسرى. ومن هنا، يمكننا فهم الصراع داخل «فتح» نفسها كجزء من الصراع الأساسي ضد الاحتلال. ويبقى الرهان الأهم هو على انتصار المقاومة على كل الجبهات في ظل هذا الصمود وتغيُّر موازين القوى وعودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وإلى المسرح الدولي، كقضية تحرر وطني في سبيل تحقيق العدالة واستعادة الحقوق المسلوبة.

* كاتب فلسطيني